على أصوات قارعي طبول التقشُّف، وفي ظل القصور الاستراتيجي والعجز التكتيكي، دخل لبنان منطقة الخطر في العام الحالي 2019، ويمكن وصف وضعه المالي بأنّه حرج وغير مستقر تماماً بسبب المديونية العامّة العالية وانخفاض معدلات نموّ الناتج المحلي الإجمالي، وانخفاض الإيرادات الحكومية وزيادة معدلات التضخم والنفقات الحكومية، وكذا ارتفاع العجز في الميزانية والحساب الجاري والمقدَّر بنحو 13 مليار دولار.
كل هذا من شأنه أن يُخلّ بمصداقية واستدامة نظام سعر الصرف الثابت ويمارس ضغوطاً تضخمية كبيرة، وها هي التدابير التقشفية تأتي لتبدِّد ما تبقى من الثقة في الاقتصاد اللبناني الذي يحتاج بدلاً من ذلك إلى اتخاذ تدابير تعديل مالي ملائمة (fiscal adjustment measures).
وهناك تضارب كبير بين الحقائق التي يسردها الواقع الاقتصادي الحقيقي للبنان، وبين الإحصائيات المنشورة، مثلاً توقّعت أجندة الإصلاح المالي للحكومة اللبنانية المنشورة في 2019، وجود انخفاض في عجز الموازنة كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي من 11.2% في العام 2018 إلى نحو 7.5% في العام 2019، مانحة بذلك صورة تفاؤلية تشكِّل مساراً واعداً نحو الحدّ من العبء الكبير للديون الواقع على عاتق البلاد، وهذا ما يتعارض تماماً مع الواقع.
وتحت وقع تلك الضغوط عبَّر مستثمرون أجانب عن نيتهم منح لبنان قروضاً جديدة تصل إلى 11 مليار دولار، وذلك خلال المؤتمر الاقتصادي للتنمية من خلال الإصلاحات CEDRE المنعقد في باريس في شهر إبريل 2018، بشرط أن تتَّخذ الحكومة حزمة متنوعة من التدابير التقشفية وأن تخفِّض عجز الموازنة بنسبة 5% خلال السنوات الخمس المقبلة، وهذا ما يمكن وصفه بالشرط التعجيزي، فمن المعقول أن يتمّ خفض ذلك العجز بنسبة 1% عوضاً عن 5% خلال فترة الخمس سنوات المقبلة.
فالخيارات المتاحة لخفض العجز بتلك السرعة الخيالية جدّ محدودة، ولا سيَّما مع قلة توفُّر المصادر المحلية والدولية المستعدة لتمويل الديون الحكومية، ففي 27 مايو 2019 اشترى مصرف لبنان المركزي BDL لوحده ما يعادل 650 مليون دولار من أحدث السندات الحكومية التي تمّ إصدارها، وحدث تبادل مماثل للسندات في العام 2018 بما يعادل 2.8 مليار دولار، وهذا ما يوضِّح بشكل جليّ المسار الخطير الذي يسلكه الاقتصاد اللبناني.
وخسر احتياطي العملات الأجنبية لدى مصرف لبنان المركزي في فبراير/ شباط 2019 نحو 10.33%، أي ما يعادل 4.48 مليارات دولار مقارنة بالمستوى الذي كان عليه في نهاية فبراير/ شباط 2018 والمقدّر حينها بـ 43.36 مليار دولار، والذي وصل إلى 41 مليار دولار في إبريل 2019.
ويستمرّ البنك المركزي اللبناني بالصمود، إلى حين اللحظة التي يرتفع فيها هرب رأس المال (أي ودائع البنوك التي قد تغادر من النظام المصرفي المحلي)، أو تتدهور قيمة التحويلات المرسلة إلى لبنان (والبالغ متوسطها 7 مليارات دولار في السنة والتي تعوِّض إلى حدّ ما عجز الحساب الجاري).
وسيحدث ما لا يحمد عقباه إذا تطوَّرت الأوضاع للأسوأ وحدثت اضطرابات عسكرية، فهذا سيؤدي مباشرة إلى حدوث أزمة في العملة، بسبب قيام الجمهور بتحويل ودائعهم البنكية من الليرة اللبنانية إلى الدولار.
ولأول مرة منذ 2015، وخلال الأشهر الخمسة الأولى من 2019، سجَّل ميزان المدفوعات عجزاً قدره 5 مليارات دولار وهي إشارة واضحة على هرب المزيد من رأس المال والودائع المصرفية، ودليل لا يدحض على الضغط الممارس على نظام سعر الصرف.
وعلى غرار صندوق النقد الدولي الذي لا ينفكّ يصدر التقارير المحبطة عن الاقتصاد اللبناني، ستنضم إليه مؤسسة التصنيف الائتماني الأميركية ستاندرد آند بورز (S&P)، التي قد تخفض في الأشهر القليلة القادمة تصنيف الدين العام في لبنان بشكل أكبر من الفئة B إلى C.
وهكذا ستنكمش الثقة في الاقتصاد اللبناني أكثر فأكثر إلى حدٍّ يصعب فيه حتى على التدابير التقشفية إحداث تحسُّن ولو بشكل طفيف، وبذلك تعمّ الضبابية على هذا الاقتصاد ولا سيَّما مع عزوف البنوك عن المساهمة في تمويل خزينة الدولة، تحت حجة عدم المغامرة بوضع أموالهم في دلو مثقوب نتيجة مماطلة الحكومة في تنفيذ الإصلاحات اللازمة.
وبذلك تكون 2019 هي الأصعب على الاقتصاد اللبناني، فقد أرغم الاقتراب من حافة الإفلاس مشروع الموازنة على التشبُّث بتدابير تقشُّفية هي الأولى من نوعها في البلاد، التي تطاول رواتب العاملين في القطاع العام، ومكَّنت فزاعة المسّ برواتب الموظفين من انطلاق كرة ثلج الإضرابات، وهذا ما شكَّل حالة من الذعر في الوسط الاقتصادي.
ويجدر بالذكر أنّ هذه الحالة موجودة بنسب متفاوتة في أغلب الدول العربية المهدَّدة بالسقوط في دوامة التقشُّف الجهنمية، كما سبق لدول أوروبية كاليونان والبرتغال مواجهة هذه الحالة، والفرق يكمن في الدعم النقدي الهائل الذي تتلقاه تلك الدول من البنك المركزي الأوروبي، ولكن هذا لا يبرِّر مماطلة الحكومة اللبنانية في تطبيق الإصلاحات الضرورية، التي كلما تأخَّرت ازدادت تكلفتها.
ينبغي على الحكومة اللبنانية إيجاد الحلّ بأقصى سرعة ممكنة والتفكير في بدائل أخرى، كالمضيّ قدماً في التنقيب عن النفط والغاز في البحر المتوسط وإعداد خطة واضحة وفعّالة لإنقاذ قطاع الكهرباء، لأنّ سياسة التقشُّف التي يفرضها الاتحاد الأوروبي والدائنون الذين يترأسهم صندوق النقد الدولي، لن ترحم ولن تزيد الأمواج التي تتقاذف سفينة الاقتصاد اللبناني إلّا علوّاً وهيجاناً.