تفيد الحصيلة السينمائية، الصادرة عن "المركز السينمائي المغربي"، أن المغرب أنتج 96 فيلمًا قصيرًا عام 2017، عُرضت في نحو 50 مهرجاناً في مختلف المدن المغربية. لكن المقالات عن الأفلام القصيرة أقلّ من المهرجانات. لذا، لا يحصل المخرجون على نصوص تحلّل أفلامهم. أقصى ما يسمعونه مرتبط بالإعجاب، سلبًا أو إيجابًا. كأن الفيلم القصير "صورة فيسبوكية". النقد ليس مجرّد قول انطباعي، بل عليه أن يدلّ على أحكام.
بحسب المخرج المغربي محمد مفتكر، فإنّ الفيلم القصير مفهومٌ أكثر منه مدّة زمنية، ومحطةٌ أكثر منه رحلة. يقول إن على هذا النوع السينمائي (الفيلم القصير) ألاّ يحكي قصّة، فالقصة تعني شخصية، ثم مشكلة، ثم الوصول إلى الجحيم، ثم العودة منه. هذا يتجاوز بنية الفيلم القصير. لذا، يجب أن يختار السيناريست لحظةً، هي مقطع من أزمة، ويركّز عليها. القصّة الكلاسيكية تشتمل على 3 مراحل: البداية، عرض المشكلة، ثم الحل. هذه بنية تناسب الفيلم الطويل.
جديد السينما المغربية القصيرة يتمثّل بـ3 أفلام: "يطو" لنورالدين عيوش (1945) و"كابوس الماء" للحسين شاني (1974) و"يوم خريف" لعماد بادي (1988).
في "يطو" (25 د.)، يقدّم عيّوش صورة مريعة عن البورجوازية العليا المغربية. فساد ونفوذ فادح وقتل وشهوة مغلّفة بالحج. هذا كلّه في حفل يعبق بالبخور واللباس التقليدي الذي يخبر عن إيمان عميق. عيوش رجل إشهار لامع، مقرّب من أصحاب القرار. يعرف ما يحكي عنه: بورجوازية تُعلّم أولادها في الخارج، الذين يعودون إلى البلد ليديروه في الفن والتجارة.
سرديًا، يغطّي الفيلم زمنًا يزيد عن 20 عامًا. الحوارات طويلة وفيها ثرثرة: شابة تعود لتنتقم من الوغد الناجح، زوج أمها. في ذلك إحالة إلى محاولة هاملت تمثيل الجريمة لدفع عمه إلى الاعتراف. فيلم قصير لا يمكنه تحمّل هذا.
يستعين الفيلم بـ"فلاش باك" لشحذ حقد يطو ضد العدو. بعد نقد الـ"فلاش باك" مرّات عدة، لم يبق إلا الدعاء: اللهم اشفِ الأفلام المغربية من الـ"فلاش باك" الذي يوهم أن عقارب الساعة تدور إلى الوراء.
سيناريو "يطو" لهشام العسري، لكن يبدو أنه مكتوب بإشراف نور الدين عيوش، لذلك لم يظهر فيه أسلوب العسري كثيرًا. تمثيل إسماعيل أبو القناطر في دور زوج الأم المقتولة، ولينا لمارا الشابّة ذات الجسد البهيّ، الذي عرضته كاميرا عيوش بحبّ.
على نقيض أجواء قمة المجتمع في فيلم عيوش، يجري فيلما "كابوس الماء" لشاني و"يوم خريف" لبادي في قاعه، فهما عن طفلين فقيرين. لا يقف التناقض عند الطبقات، بل يمتد إلى الإمكانات وحجم الوسائل المستخدمة في التصوير وسنّ الشخصيات وتدبير الزمن والصراع والبنية. هناك تناقض على صعيد البنية: حاول عيوش تصوير قصة بكاملها، فجاءت بنية فيلمه أشبه ببنية فيلم طويل؛ بينما صوّر شاني وبادي مقطعًا من قصة حياة.
لدى بطلة عيوش خصم محدّد، هو زوج أمها. هي تملك الجمال والذكاء لإدارة الصراع معه. بينما خصم الطفلين هو وضعهما الاجتماعي. هدف هذه المقارنة كامنةٌ في عرض أوجه الاختلاف.
يجري فيلم "يوم خريف" (17 د.) في بادية فقيرة. فيه طفل (محمد اعبيرو) حافٍ تقريبًا. صُدم بجثة. يجري بحثًا عن ماء دافئ. يضعنا المخرج في السياق من اللقطة الأولى. لذا، لم يكن ملزمًا بأي شرح لاحقًا. الحدث الرئيسي الذي كان سيحلّ المشكلة باكرًا يجري خارج الـ"كادر"، لكن العلاقات السببية بين الأحداث الحاضرة والقطع واضحة، وهي تأسر المتفرّج. هذه العلاقات السببية تجعل الفيلم أكبر من ألبوم صور. النتيجة: بعد رحلة متعبة، يجد الطفل جثة أبيه مغسولة بماء بارد، وهي في طريقها إلى المقبرة. هكذا يقطر الفيلم تجربة وجودية في لحظة كثيفة ودالة.
تحقّق جزءٌ كبير من الفيلم أثناء المونتاج، وهو إعادة تركيب ما تمّ تقطيعه في التصوير. فيه تقطيع سينمائي وتنظيم مدهش لدخول الطفل في الإطار وخروجه منه، لكشف المسافة بينه وبين الهدف. يُبقي المخرج الـ"كادر" فارغًا لوقت طويل. صوّر بطلَه، فبدا الطفل تائهًا. في النصف الثاني، انخفض الإيقاع. كان يمكن رفعه بحذف بضع لقطات زائدة.
في "كابوس الماء" (15 د.) للحسين شاني، هناك سباك فقير (جيلالي بوجو) يعاني مشاكل اقتصادية وصحية، ويبحث عن حلّ في ظلّ شمس حارقة. فيلمٌ كئيبٌ ومؤثّر، يعرض عجز الأب تجاه زوجته وابنه. مقتبس من قصة قصيرة كثيفة وصعبة، وفيها أجواء غير مبهجة بل قاسية. مرض نفسي تسبّب في مرض عضوي. قصة داخلية يصعب تحويلها بصريًا، رغم أن الحسين شاني يعمل ببطء، ويفحص عمله بدقّة. قدّم مقاربة واقعية تنقصها الكثافة والترميز. ينقص غرام مجنون لإنقاذ الفيلم من الواقعية المفرطة. أحيانًا، تكون كثرة الفحص مضرّة بعمل المخرج.
في الأفلام الـ3 مقاربة واقعية تظهر العنف الاجتماعي بأشكال مختلفة، للحصول على اللذة أو المال أو المساعدة. حكايتان من القمة والقاع. ما يحرق من بخور في ليلة ذكر واحدة يكفي لإطعام أسرة فقيرة شهرًا، وغسل ألف ميت بماء ساخن.