8 آذار في سورية: ماضٍ كان مستقبلاً

09 مارس 2016

جنود في دمشق يوم انقلاب الثامن من آذار 1963(Getty)

+ الخط -
في الثامن من مارس/ آذار من العام 1920، تُلي على الجماهير، المحتشدة في ساحة المرجة في دمشق، بيان المؤتمر السوري العام الذي كان قد انعقد في دمشق قبل يوم برئاسة هاشم الأتاسي، ومشاركة ممثلين عن كل المناطق السورية، يعلن قيام "المملكة العربية السورية" على أراضي "سورية الطبيعية"، وتنصيب الأمير فيصل بن الشريف حسين بن علي ملكاً عليها، وسمّي بيان استقلال سورية. هذا البيان الذي رجّت أصداؤه أركان المشاعر الجماهيرية، بما صدح به من وحدة سورية الطبيعية وحق شعبها في تقرير مصيره، كما وعدته قوى الحلفاء حينها. ووضعت المملكة دستورها في الثالث عشر من تموز/ يوليو الذي ضمن حقّ التوريث، وثبّت دين الدولة الإسلام واللغة الرسمية هي العربية، وتطبيق الأحكام العرفية، فيما لو حدثت ثورة، كما جاء في المادة أربعين منه.
وصدّقنا الوعود، لكن هذا الغرب، وتلك القوى العظمى المتصارعة، كانت توزع الكعكة فيما بينها، وفق اتفاقياتها غير المعلنة، فقد أقرّ مجلس عصبة الأمم وثائق الانتداب على المناطق المعنية باتفاقية سايكس بيكو في 24 يونيو/ حزيران 1922. وعقدت في 1923 اتفاقية جديدة، عرفت باسم معاهدة لوزان، لتعديل الحدود التي أقرت في معاهدة سيفر التي كانت الضربة الأخيرة للدولة العثمانية المتداعية. وتم بموجب معاهدة لوزان التنازل عن الأقاليم السورية الشمالية لتركيا أتاتورك. كانت النتيجة تقسيم المنطقة إلى مناطق نفوذ واستعمار، على شكل انتداب، انتهت بعد حروب التحرير إلى تقسيم هذه السورية الطبيعية إلى دولٍ، تفصلها حدود سياسية. وتم بعدها إعلان قيام دولة بلا حدودٍ سياسيةٍ، تدّعى إسرائيل على أرضٍ عزيزة من سوريا الطبيعية، فلسطين. انتهى مفعول صك انتداب عصبة الأمم على فلسطين يوم 14 أيار 1948، وجلا البريطانيون عنها. لكن، في اليوم التالي، أعلن قيام إسرائيل، وحتى فلسطين قُسّمت بعد حرب 1948 ثلاث وحدات سياسية: إسرائيل والضفة الغربية وقطاع غزة. في عام 1994، قامت السلطة الوطنية الفلسطينية المشلولة والعاجزة عن حماية ما تبقى من أرض فلسطين، من جرافات الاحتلال وقيام المستوطنات.
بعد ثلاثة وأربعين عاماً، شهدت فيها سورية أحداثاً مفصلية من انتداب فرنسي واستقلال وحكومات استقلال متلاحقة، افتتح فيها انقلاب حسني الزعيم عام 1949 سلسلة انقلابات عسكرية في سورية المنبثقة عن تلك الاتفاقيات والمعاهدات الدولية، وأجهضت أحلام النهضة الواعدة، ثم وقع انقلاب الثامن من آذار في 1963، والذي دخل التاريخ من بابه الواسع، تحت مسمى ثورة الثامن من آذار، احتكر فيها الحكم حزب واحد، أطلق على نفسه في المادة الثامنة
لأول دستور، وضعه الحزب في العام 1973: قائد الدولة والمجتمع، فقد تحركت الفصائل المنقلبة من الجيش في دمشق، وحاصرت المقرات المهمة في العاصمة، واعتقلت رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة وأغلب الوزراء. كان من نتائج الثورة إلغاء التعددية السياسية والاقتصاديّة وقيام دولة الحزب الواحد في سورية وإنفاذ قانون الطوارئ منذ 1963، وأطلق الحزب شعاراته وأهدافه: أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة، أهدافه التي كنا نردّدها منذ طفولتنا الأولى: وحدة حرية اشتراكية، بعد أن احتكر الحزب الإعلام والتعليم وغيرها من المجالات الفكرية، وبالاستناد إلى الخطاب الإعلامي والتعبوي والتوجيهي الذي كنا نسمعه بأن الحزب يعمل على تطبيق النهج الوطني والقومي التحرّري والوحدوي والتقدمي، انتشينا بحظوظنا التي أنعمت علينا بمثل هذا الحزب، ومثل هذه القيادة. لكن، حتى هذه الثورة الانقلابية تلاشى ألقها، وذاب وهجها في الحركة التصحيحية التي صارت "مبتدأ التاريخ السوري".
ولكن، بما أن هذا اليوم، الثامن من آذار، يصادف أيضاً عيد المرأة العالمي الذي دعت إلى الاحتفال به الجمعية العامة للأمم المتحدة في 1977، فإن القرائن تأتي إلى البال مباشرة، خصوصاً أننا كنا في سورية ننعم بعطلةٍ رسمية في هذا اليوم، ليس كرمى لعيون نسائها الفاضلات، بل إحياء لذكرى الثورة المجيدة البيضاء التي لم تُرق فيها الدماء، على الرغم من أنها ثورة العمال والفلاحين. للإنصاف، كانت المنابر الإعلامية تعرّج باستحياء على عيد المرأة، لكنها، وانسجاماً مع التوجه العام، وانطلاقاً من العرفان لثورة الثامن من آذار لما قدمته للمرأة، فإن التذكير بالمكرمات يحتل الخطابات الرسمية.
لم يكن الوضع الاجتماعي أو الاقتصادي أو الأسري للمرأة التي يضعها الحزب التحرري التقدمي الاشتراكي، القائد للمجتمع، في بؤرة قضاياه وتطلعاته، ولم يكن لائقاً بمكانتها وبإنسانيتها وبادعاء الدفاع عن كرامتها وحقوقها، ولا منسجماً مع ادعاء العلمانية، ففي ظل حكم كهذا، كان قانون جرائم الشرف المهين بحقها، وفي ظله أيضاً كان هناك تعدّد الزوجات، وكان هناك عدم الاعتراف بأبنائها سوريين، فيما لو كان الأب من جنسية أخرى، وكانت المناهج المدرسية تكرّس دونية المرأة، بمنحها المهام المنزلية والخدمية في القصص التربوية، وكانت تتعرّض للاستغلال والسيطرة الذكورية في البيت والعمل، وغيرها هناك مجالات تمييز أخرى كثيرة.
بعد الثامن من آذار الذي أعلنت فيه المملكة العربية السورية على أراضي سورية الطبيعية، تقلصت سورية الطبيعية على مراحل، اقتطع من شمالها لواء اسكندرون، بترت من خاصرتها لبنان بعد "سايكس بيكو"، احتل العدو الإسرائيلي جزءاً من أراضيها، ودفع الشعب، على مدى خمسين عاماً تقريباً، ضريبة التصدي والمقاومة والممانعة، بينما كانت الحناجر تصدح بالوحدة، وتنادي بالأمة العربية الواحدة، بالتوازي مع الافتراق عن الشعب وقضاياه، والانشغال بالقضايا الكبيرة والمصيرية، فكانت الحرب الحالية التي عرّت الواقع، وأظهرت فداحة ما وصل إليه المجتمع من فقر روحي وفكري، وما أدّت إليه من انهياراتٍ مجتمعية، وإذا بشبح التقسيم يلوح من جديد، تقسيم ما قٌسّم خلال قرن.
أمّا المرأة التي كانت قضيتها من القضايا التي عوّمتها سنين الأنظمة المتسلطة، من دينية واجتماعية وسياسية، فإنها دفعت الفاتورة الأكبر، وخسرت من مكانتها التي لا زالت في بداية الطريق إليها، وكانت الضحية الأكبر في هذه الحرب، فهي أم الشهيد وأخته وابنته وزوجته، وهي التي تسام الذل وانتهاك كرامتها في بازاراتٍ تشكلت على هامش الحرب.
قُسّمت سورية، ولا زال المشروع قائماً، ودفعت ثمن الصراعات الدولية، وإعادة ترتيب مراكز القوى في العالم، فها هو صدى الحرب العالمية الثانية يردّد رجعه في سمائها. يا للمفارقة العجيبة، كانت هناك دول محور وحلفاء، ونجم عن تلك الحرب بروز الجباريْن، الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفييتي، اللذيْن سيطرا على المقدرات السياسية للعالم، وقامت هيئة دولية جديدة على أسس واضحة ترعى السلام وحقوق الإنسان.
وها هم حلفاء اليوم يقودون تحالفاً فوق سماء سورية، ومحور الممانعة مع مؤيّديه، يحمي صمود سورية، وأميركا وروسيا، خليفة الاتحاد السوفييتي التي تستنهض أمجاد قيصرها، يترافعان ويستخلصان الأحكام لأجل مصيرنا، بينما الشعب السوري يقتل ويموت بطرقٍ متنوعة لا ترحم، وجمعيات وهيئات حقوق الإنسان وحقوق الشعوب تتدفّأ على نبض القوى العظمى، وشبح تقسيم المقسّم يلوح في الأفق، والمرأة السورية في يومها العالمي تهوي إلى مراتبٍ سفليةٍ في القاع الاجتماعي. فهل ذلك الماضي كان مستقبلاً؟