في 28 سبتمبر/أيلول 2005، وافق الجزائريون في استفتاء شعبي على قانون "السلم والمصالحة الوطنية". صادق الشعب بنسبة 97 في المئة على القانون الذي اقترحه الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، استكمالاً لقانون "الوئام المدني" الذي كان أصدره في عام 1999. يشرّع القانون الوضعية القانونية لستة آلاف مسلح، من عناصر "الجيش الإسلامي للإنقاذ"، كانوا قد نزلوا من الجبال وأعلنوا وقف العمل المسلّح، في مقابل الاستفادة من العفو القضائي، بموجب اتفاق جرى التوقيع عليه بين قيادة التنظيم المسلّح وقيادة الجيش الجزائري في 1997، إضافة إلى تسعة آلاف مسلّح نزلوا بعد عام 1999.
وينص قانون المصالحة الوطنية على جملة من الإجراءات والتدابير المتصلة بتسوية آثار الأزمة الأمنية التي عصفت بالبلاد، أبرزها العفو عن المسلحين الذين يقبلون وقف العمل المسلح وتسليم أسلحتهم، والإفراج عن المساجين المتورطين في الأعمال الارهابية أو تمويلها ومنح تعويضات لعائلات المسلحين الذين قضت عليهم القوات الحكومية، إضافة إلى إجراءات أخرى تخص فئات أخرى متضررة من المأساة الوطنية.
ويجد 15 ألف مسلح تائب، بعد تسع سنوات من تطبيق قانون "السلم والمصالحة الوطنية"، أنفسهم في مواجهة تحديات الحياة الاجتماعية. نجحت السلطة نسبياً بإعادة إدماجهم في الحياة العامة، مع أن الأمر لم يكن سهلاً بالنسبة للسلطات الجزائرية التي كانت مرهقة بعد مجهود أمني مضنٍ، ومرحلة دامية تضررت معها البنية التحتية للبلاد، مع ما تداعى معها من مشكلات أخرى. كذلك كانت العودة للحياة المدنية صعبة بالنسبة للمسلحين الذين عليهم مواجهة مجتمع، تسببوا في كثير من آلامه، وفي خلخلة نسيجه الاجتماعي.
في كشف حساب المصالحة الوطنية في الجزائر أرقام ودلالات. فقد أعلن رئيس خلية المساعدة القضائية المكلف بتطبيق السلم والمصالحة الوطنية، مروان عزي، حصيلة تضمنت استفادة 15 ألف مسلح سابق من إجراءات العفو القضائي، وإلغاء المتابعات القضائية التي كانت تلاحقهم خلال فترة نشاطهم في صفوف المجموعات المسلحة. وينتمي هؤلاء المسلحون إلى عدة تنظيمات كـ"الجيش الإسلامي للإنقاذ"، و"الجماعة الإسلامية المسلحة"، و"الجماعة السلفية للدعوة والقتال"، و"حماة الدعوة والسلفية"، إضافة الى عدد قليل من المسلحين التابعين لتنظيم "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" الذين سلموا أنفسهم الى السلطات بعد عام 2007.
بين هؤلاء التائبين، 2200 عنصر من مسلحي الجماعات المسلحة وعناصر شبكات الدعم والإسناد الذين كانوا موقوفين في السجون، تم الإفراج عنهم في سياق تطبيق هذا القانون، كما تمت اعادة أكثر من 4300 شخص من العمال والموظفين الذين تم فصلهم في التسعينيات من وظائفهم بتهمة الانتماء الى المجموعات المسلحة أو شبهة توفير الدعم المادي لها، إلى مناصبهم.
وقدمت السلطات الجزائرية مساعدات اجتماعية وتعويضات مادية لأكثر من 11 ألف من عائلات المسلحين الذين تم القضاء عليهم من قبل قوات الجيش والأمن منذ عام 1992. واستهدفت مبادرة السلطات الجزائرية تكريس روح المصالحة بأن يشمل الجهد الوطني لجبر الضرر الاجتماعي، كل من يصفهم القانون بـ"ضحايا المأساة الوطنية".
لكن ملفات عددة متصلة بالمأساة الوطنية في الجزائر، ظلت عالقة ومعقدة، وحاولت السلطات أن تضع لها إطاراً قانونياً ينهي وجودها. فملف المفقودين خلال فترة الأزمة الأمنية، ما زال معلقاً، وتعترف السلطات بلائحة تضم 7400 مفقود، وتؤكد أنها قامت بتسوية ملفات 7100 مفقود، وقدمت تعويضات مالية إلى عائلاتهم في إطار تسوية أوضاعهم، واستخراج شهادات وفاتهم. لكن عدداً آخر من عائلات المفقودين ما زالت ترفض أية تسوية قانونية أو سياسية ومالية، قبل معرفة مصير أبنائها، وكشف الحقيقة بشأن ظروف وملابسات اختطاف واغتيال أبنائها، إذ تصر هذه العائلات على توجيه التهمة إلى مصالح الأمن الجزائرية في الوقوف وراء ذلك. إذ ما زالت أمهات وعائلات المفقودين تنفذ وقفتها الأسبوعية كل يوم أربعاء، وسط العاصمة الجزائرية للمطالبة بالحقيقة.
ليست قضية المفقودين وحدها العالقة، فهناك ملف "أطفال الجبل"، وهم الأطفال الذين ولدوا في الجبال، بعدما قرر عدد من المسلحين استقدام زوجاتهم إلى المراكز التي كانت تتمركز بها المجموعات المسلحة، أو أقدموا على الزواج من نساء تم اختطافهن بالقوة من عائلاتهن في الريف. ويؤكد عزي أن "السلطات تحصي 500 طفل ولدوا في الجبال، ولم يتم تسجيلهم في مصالح الحالة المدنية، وبعضهم توفي والده في قتال الجيش، وهو أمر يصعب من تثبيت وضعهم القانوني في سجلات الحالة المدنية، وبصعوبة، سوت السلطات وضعية 37 منهم، إضافة إلى ملف النساء المغتصبات من قبل المسلحين".
ليس هذا فحسب، فملف المصالحة الوطنية وإن كان قد تجاوز المعالجات القانونية للأزمة الأمنية للبلاد، إلا أن المعالجات السياسية لمسببات الأزمة، لم تُفعل بعد. فحزب "الجبهة الإسلامية للإنقاذ"، الطرف الرئيس في الأزمة، ما زال محظوراً عن النشاط السياسي، وقياداته ممنوعة من النشاط السياسي وحق الترشح في الانتخابات، بموجب "قانون المصالحة الوطنية"، وهو الأمر الذي ما زال مطلباً ملحاً لإطارات الحزب المحظور.
صحيح أن تجربة المصالحة الوطنية وضعت الجزائر في نقطة تحول، من بلد يصدر الارهاب وعدم الاستقرار، الى بلد يصدر تجربة المصالحة الوطنية، وربما كانت هذه التجربة الناجحة، الدافع للجزائر لإعادة طرح الفكرة على فرقاء الأزمة في مالي وليبيا، لكن هذه المصالحة وبقدر ما ساهمت في اعادة الأمن والاستقرار في الجزائر، فإنها ما زالت بحاجة الى استكمال جدي لمسارها، على صعيد تصحيح الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للبلاد، بما يجنبها قلاقل داخلية إضافة الى تحديات أمنية إقليمية.