"عرفات" والعراق و"الزوبع"
عند مشاهدتي للمسلسل الرمضاني الرائع (جزيرة غمام) كثيرا ما تجلت صور العراقيين في بالي مع عرفات الطيب الدرويش وتبشيره بـ"الزوبع".. الزوبع، ذلك البلاء القاهر الذي سيغشى البلاد والعباد.
أتى الزوبع في صور متعددة على العراق، منها البلاء في أعوام القحط في الجزيرة، وغزوة اللصوص في نهاية القرن التاسع عشر، ومنها دخول العراق في الحرب العالمية الثانية ومقتل العديد من جنود جيشه تحت القصف المتبادل بين العنصريين المتعاونين مع ألمانيا النازية (وهم متغشون بخليط من الخطاب الطائفي والسياسي)، وقصف الجيش البريطاني في معارك الحبانية، متبوعة بالموحان (وهو الاسم الدارج عراقيا للفيضان)، ولم يبقَ من ذكر الموحان بعد جفاف نهري دجلة والفرات الآن إلا ميمية الجواهري الشهيرة والتي مطلعها: "نامي جياعَ الشَّعْبِ نامي .. حَرَسَتْكِ آلِهة ُالطَّعامِ".
ولم يسلم العراقيون من أكبر زوبع في القرن العشرين، والذي أتى به خلادين السياسة ومن انتشى بخمر السلطة المطلقة، فقتلوا العباد وحرقوا البلاد.
يستمر عرفات العراقي في انتظاره للزوبع. عرفات ما زال يسير مكسي القدمين ببقايا الاقتصاد الريعي النفطي، لكن رحلة عرفات وتعلقه بسبحة حبيبه ما زالت مستمرة
غزا "خلدون" من أمِنَ، ونتيجة لذلك حوصر أهل عرفات بجريرة فعل خلدون وهم لا حول لهم ولا قوة، فحصل القحط واضطر العراقيون للتأسي بالسلف الصالح بضغط البطن عند الأكل كي لا يسرفوا ويجوع الآخر، فترى كل عرفات فيهم يأكل جلوسا على الأرض وهو يبادل بين ضم ركبته اليمنى ثم اليسرى إلى معدته حين تتعب قدمه.
في فترة الحصار، ومع شدة الجوع والألم، لم أسمع عن تكافل في بلد بين المناطق والجيران كما في العراق، ترى الملابس تتوزع على الأهل والجيران بالمجان، وتبدع الأمهات في قلب البطانة لتصبح "واجة" جديدة.
ترى الفقير الجائع البردان في المدارس التي لم تسلم قطعة زجاج في نوافذها إما نتيجة للقصف أو الاختراق المستمر لحاجز الصوت فوق المدن، يدفأ بتنفس زملائه وهم يفرشون كتبهم على الأرض ما استطاعوا، ويتجمعون حول بعضهم طلبا للدفء ونسيانا للجوع، كم غنت النفوس رغم الفقر، وكم شبعت النفوس رغم جوع البطون.. أما من في قلوبهم مرض فاتبعوا طرق الوضاعة لكنهم كانوا نفرا قليلا.
بعد سقوط النظام السابق عام 2003، ترى خروج الناس وتنظيفها للشوارع، والمحطات الكهربائية كله من دون رقيب أو خوف. لم يرَ العالم هذا الأمر، لكن ركضت كاميراته لتعرض صورا لقلة آذاهم إذلال خلادين السياسة من صغار ضعاف النفوس، وكذلك هجوم من اختفى أهلهم على مقرات الدولة التي تحوي أوراق التحقيقات والملفات الأمنية لكي يعلموا مصير أولادهم، متبوعا بغضبهم الشديد الذي ترجم بتكسير أو استغنام ما حرمهم السفهاء منه. اطلعنا على بعض هذه التقارير الأمنية وآه من صدمتنا بالنفر القليل ممن باعوا ناسهم بأبخس الأثمان.
ويستمر عرفات العراقي في انتظاره للزوبع. عرفات ما زال يسير مكسي القدمين ببقايا الاقتصاد الريعي النفطي، لكن رحلة عرفات وتعلقه بسبحة حبيبه ما زالت مستمره، ولم يصل عرفات بعد لـ"غاشي" أخيه في اللغة والجيرة والتاريخ. بل يبدو أن غاشي ما زال بصره مغشيا عن الحق والخير وعون عرفات لينجو الاثنان من الزوبع القادم، الزوبع قادم.. هذا هاجس كل عراقي نتيجة لخبرة السنين التي تربو عن العشرة آلاف.
كلي أمل أن يرى العراقي قوس قزح السماء مع أخيه غاشي بعد انجلاء الزوبع.