آخر فصل في حياة "أستاذي": من موري إلى عماد!
هلا نهاد نصرالدين
"كان آخر صفٍّ في حياةِ أستاذي القديم يُعقد مرّة واحدة في الأسبوع في منزله، بجوار نافذة مكتبه، حيث كان يمكنه مشاهدة نبات الكركديه الصغير، وهو يفقد أوراقه الوردية. كان الصف يُعقد أيّام الثلاثاء، ويبدأ بعد الفطور. كان الموضوع هو "معنى الحياة"، وكان يُدرس من خلال التجربة. لم تكن هناك درجات، لكن كانت هناك امتحانات شفهيّة أسبوعيّة. كان من المتوقّع أن تطرح أسئلتك الخاصة، وأحيانًا كان يُطلب منك أداء مهام جسديّة، مثل رفع رأس الأستاذ إلى وضعٍ مريح على الوسادة أو وضع نظارته على جسر أنفه. توديعه بابتسامة كان يمنحك نقاطًا إضافيّة. لم تكن هناك كتب مطلوبة، ولكن تمّ التطرق إلى الكثير من المواضيع، بما في ذلك الحبّ، العمل، المجتمع، العائلة، الشيخوخة، التسامح، وأخيرًا الموت. كانت المحاضرة الأخيرة مُختصرة، بضع كلمات فقط. أُقيمت جنازة بدلًا من حفل التخرج، كانت آخر حصة في حياة أستاذي القديم تضم طالبًا واحدًا فقط، وكنت أنا الطالب".
هكذا يبدأ ميتش ألبوم، كتابه "أيام الثلاثاء مع موري"، الذي يروي فيه قصّة أستاذه الجامعي موري شوارتز. كنت قد قرأتُ هذه الرواية لأوّل مرّة في عام 2016، بعد أن فقدتُ أعزّ شخصٍ في حياتي، والدي. كنت لا أزال تحت تأثير صدمةِ وفاته المُفاجئة. لم أتوقّع حينها أن تتكرّر تجربة مشابهة لتجربة موري في عائلتي بعد سنواتٍ قليلة، وأن أعيدَ قراءةَ الرواية بعد فقدان شخصٍ آخر، وكأنّ عقلي الباطني يربط هذه الرواية بمآسي الموت.
"أيام الثلاثاء مع موري" هي مذكرات مؤثّرة حول زيارات المؤلِّف الأسبوعيّة لأستاذه الجامعي السابق، موري شوارتز، الذي كان يحتضر بسبب مرض التصلّب الجانبي الضموري.
كلّما اقترب الموت، بدت الحياة أكثر وضوحًا وبساطة
عندما اكتشف ميتش مرضَ أستاذه بعد سنواتٍ طويلة من تخرجه، بدأ بزيارته كلّ أسبوعٍ يوم الثلاثاء، واستمع لمذكراته وحكمه الحياتيّة، فمع تدهور حالة موري الجسدية، ازدادتْ حكمته وتألقت روحه. قدّم موري دروسًا لا تُقدّر بثمن حول الحبّ، والعمل، والعائلة، والموت، والتسامح، والكثير من الأشياء التي قد لا نعطيها اهتمامًا في حياتنا اليوميّة الاستهلاكيّة المليئة بالضغوطات، ولكنّنا نكتشف على فراش الموت أنّها كانت الأهم. كلّما اقترب الموت، بدت الحياة أكثر وضوحًا وبساطة.
كان الاتفاق أن يكتب ميتش مذكرات موري بعد وفاته.
أبكتني الرواية كثيرًا في عام 2016، لكنّني وجدت فيها عزاءً من نوعٍ ما، تمثّل بأنّ والدي تُوفي على الأقل، فجأةً، ودون معاناةٍ مع أيّ مرض. ومع ذلك، كنت دائمًا أخشى أن يُصاب أحد أفراد عائلتي أو أصدقائي بهذا المرض، وبالفعل حدث ذلك. ففي عام 2019، تمّ تشخيص خالي عماد، شقيق والدتي، بمرض التصلّب الجانبي الضموري (ALS)، وبدأت رحلة المعاناة الطويلة بحيث بدأ يفقد قدرته على الحركة تدريجيًا.
لا يسعني إلّا أن أضع نفسي مكانه، كيف يمكننا العيش ونحن نعلم أنّ كلّ شيء مؤقت، حتى النفس الذي نستنشقه؟
كيف يمكننا العيش ونحن نعلم أنّ كلّ شيء مؤقت، حتى النفس الذي نستنشقه؟
أتذكر عندما كنّا أطفالًا، كنا نتساءل دائمًا: "إذا علمنا أن لدينا 24 ساعة لنعيشها، كيف سنقضيها؟" وكانت الإجابة دائمًا معقدة. أمّا مرضى ALS فيواجهون هذا السؤال بشكلٍ يوميٍّ منذ تشخيصهم، ويتساءلون كيف سيختمون حياتهم؟ وما هي خطواتهم الأخيرة قبل أن يفقدوا القدرة على أن يخطوا أيّة خطوة؟
أحد أصدقائي سألني معزّيًا: "أعتذر عن جهلي، ولكن ما هو الـ ALS؟ لم أسمع به من قبل!" فأجبته: "لا عليك، فهو مرض نادر جدًّا، يصيب 4 من بين كل 100,000 شخص في الولايات المتحدة الأميركية". عماد كان مميّزًا لهذه الدرجة!
فجأة، وجدنا أنفسنا في العائلة جميعًا نقرأ عن المرض وعوارضه، وأسبابه… وكيفية تأخير الموت. إلّا أنّه أمر لا مفرّ منه!
ما هو مرض التصلب الجانبي الضموري (ALS)؟
هو مرضٌ عصبي نادر يؤثّر على الخلايا العصبيّة الحركيّة في الدماغ والنخاع الشوكي، ممّا يؤدّي إلى فقدان تدريجي للقدرة على التحكّم في العضلات الإراديّة. يبدأ المرض عادةً بضعف العضلات وتشنجاتها، ويؤدّي في النهاية إلى فقدان القدرة على الحركة، والكلام، والبلع، والتنفس.
يعدّ المرض أكثر شيوعًا بين الرجال مقارنة بالنساء، وغالبًا ما يبدأ في سنِّ الخمسين إلى السبعين. ومع ذلك، يمكن أن يظهر في أعمار أصغر أو أكبر. لا تزال الأسباب الدقيقة للمرض غير معروفة، لكن يُعتقد أنّ العوامل الوراثية والبيئيّة تلعب دورًا. ويختلف مسار المرض من شخصٍ لآخر، ولكن متوسّط العمر المتوقّع بعد التشخيص يتراوح بين 3 إلى 5 سنوات. ومع ذلك، هناك حالات مثل عالم الفيزياء الشهير ستيفن هوكينغ الذي عاش لعقودٍ بعد التشخيص.
رغم التقدّم الطبّي، لا يوجد حتى الآن علاج شافٍ له، ولا تُعرف أسبابه الدقيقة، لكن الأبحاث مستمرة لتحسين جودة الحياة للمصابين وإيجاد علاجاتٍ فعالة في المستقبل.
آخر لقاء
رأيتُ خالي للمرّة الأخيرة في صيف 2022. كان يحاولُ قضاء أكبر وقتٍ ممكن مع الأهل والأقارب لأنّه كان يعلم أنّ الفرص لرؤيتهم مرّة أخرى محدودة، خاصة أنّه كان يقيم في الولايات المتحدة الأميركية. في المرّة الأخيرة التي رأيته بها، كان الوداع مؤلمًا. أذكر أنّ يده اليسرى كانت قد فقدتْ الكثير من قواها، بينما اليمنى كانت ما تزال تُنازع للحفاظ على ما تبقّى. وبكلِّ ما بقي له من قوّةٍ في يده اليمنى، غمرني للمرّة الأخيرة. كانت تلك المرّة الأولى التي شعرت فيها بقوّةِ غمرته رغم ضعفه، فالمحبة خلقت من ضعف المرض قوّة.
أعتقد أنّ كلينا فهم حينها أنّه الوداع الأخير، أو "الحصّة الأخيرة"، بتعبير ألبوم. تمالكت نفسي أمامه، ولكن بمجرّد أن ركبتُ السيارة، انسالت دموعي. كنت أعرف أنّها المرّة الأخيرة التي أراه فيها. غريبة هي الحياة! كيف تتغيّر أولوياتنا عندما نكتشف أنّنا وصلنا إلى النهاية. تصبح العائلة واللحظات الصادقة والبسيطة هي أكثر ما يسعدنا، وندرك قيمة الأشياء البسيطة في الحياة التي لا نعيرها انتباهًا في أيامنا العاديّة، كغمرة خال أو مزحة أب أو جلسة ما بعد الظهيرة مع الأهل والأقرباء!
الموت… والجرأة
تبقى فكرة الموت هي الأصعب بالنسبة لي، فلم أتأقلم يومًا مع هذه الفكرة رغم أنّنا مُحاطون بالموت والقتل من كلِّ حدبٍ وصوب. منذ أن علمت بمرض خالي، وأنا أفكر في كيفيّةِ إعادة تجربة ميتش ألبوم وموري شوارتز، وكتابة مذكرات حياة خالي، التي كانت مليئة بالتحدّيات منذ هجرته من لبنان قبل أكثر من 30 عامًا. هاجر إلى الولايات المتحدة الأميركية، حيث درس هندسة اتصالات وعمل بجدٍ وتفانٍ، متنقلًا بين دول عدّة، بحيث أصبح رجل أعمال، ناجحًا، له عمله الخاص، وأسّس عائلة جميلة ومحبّة، وكرّس حياته لتوفير أفضل سبل العيش لهم.
كنت دائمًا أقول لنفسي إنّ المسافة هي التي منعتني من تكرار تجربة موري وميتش، لكنّني كنت أعلم في قرارة نفسي أنّ المشكلة ليست في المسافة، بل في الجرأة. تمنيت لو كانت لديّ شجاعة ميتش ألبوم لأطلبَ من خالي أن يروي لي مذكراته قبل رحيله. حاولت... لكن الأمر كان أصعب ممّا تخيّلت. كيف لي أن أقول لشخص: "أخبرني مذكراتك قبل أن تموت!"؟ لم أجرؤ على التفوّه بهذه الكلمات، على الرغم من أنّني كنت على يقين أنّني سأندم على ذلك لاحقًا.
غريبة هي الحياة! كيف تتغيّر أولوياتنا عندما نكتشف أنّنا وصلنا إلى النهاية
يقول ألبوم في كتابه: "أحيانًا، عندما تفقد شخصًا ما، تتشبّث بأيّ تقليدٍ تستطيع"، فأشعر أنّ كلّ موتٍ من حولي يجعلني أتشبّث بتقليدٍ ما، حتى باتتْ حياتي عبارة عن سلسلةٍ من التقاليد التي تذكرني بهذا وذاك.
توفي خالي في 17 يونيو/ حزيران 2024 في الولايات المتحدة الأميركية ودُفن هناك. لم يكن ممكنًا أن يعود في ظلّ الظروف القاسيّة التي يمرّ بها لبنان من انقطاعٍ للكهرباء وهجرة الأطباء واحتمالات الحرب. بلدُنا طاردٌ للأصحاء، فما بالكم بالمرضى!
لم يسعنا حتى أن نودّعه! ودّعنا خالي رقميًا. كان كلُّ شيء مختلفًا في تجربة الوداع عن بُعد. شاهدنا مراسم دفنه على أجهزتنا المحمولة مباشرة. كلُّ هذا التطوّر التكنولوجي الذي يتيح لنا مشاهدة العزاء بشكلٍ مباشر من قارةٍ إلى أخرى، ولكن لم يجدوا بعد علاجًا لهذا المرض!
أكتب هذه المدونة اليوم في محاولةٍ لتعويض عدم قدرتي على الاحتفاظ بمذكرات عماد. ربّما لم يكن خالي بطلًا لرواية أصبحت "الأكثر مبيعًا"، وربّما لم يكن أستاذًا جامعيًا في العلوم الإنسانية ليسعى إلى مشاركةِ تجربته الحياتيّة عبر كتابٍ ينتشر حول العالم، ولم أكن أنا مثل ميتش ألبوم، لكن قصّة عماد وحياته كانت ذات أهميّة بالغة ومثالًا يُحتذى به، لأسرته، ولنا، ولكلِّ من عرفه، وهي بالتأكيد تُستحق أن تُروى.
توفي صابرًا على مرضه، شاكرًا للتجارب الغنيّة التي عاشها متنقلًا بين عدّة دول، ممتنًا لكلِّ ما قدّمته له الحياة، وللعائلة المحبّة التي أسّسها واعتنى بها، والتي بدورها بادلته الحب ورافقته واعتنت به حتى آخر لحظة.
ختامًا، شكرًا لميتش ألبوم وموري شوارتز على الرواية التي سلّطت الضوء على مرض الـ ALS، وأعادت لنا البوصلة نحو ما هو فعلًا مهم في حياتنا.
وشكرًا لخالي العزيز لأنّه بطل حقيقي بتمسّكه بالحياة حتى النفس الأخير. هناك قصص بطولة في حياتنا اليوميّة لا نقرأ عنها في الكتب، وعماد كان أحدها.
تحية لكلِّ مرضى الـ ALS، على أمل أن يكون المقال المقبل احتفالًا بإيجاد العلاج!