آخر نكتة رواها الحاج صطيف قبل أن يموت
(الجزء التاسع من حكاية المعلم أبو أحمد ورحلته من إدلب إلى حماه)
لقد عرفتُم -أيها الإخوة قراء مدونة "إمتاع ومؤانسة"- أن بطل الحكايات المتسلسلة التي أرويها لكم، معلم المدرسة أبو أحمد، رجل فهلوي، شاطر، يُحسن التصرف في المواقف العويصة.
ولكن، ولأن كل شيء في بلادنا المنحوسة سورية يسير على نحو شاذ، ومخالف للمنطق، فإن التصرفات التي كان يقوم بها معتقداً أنها سليمة، ستبدو مضحكة.
ما حصل في طريق العودة من حماه إلى إدلب، بعد وقوف الميكروباص عند حاجز الأمن العسكري، أن عناصر الحاجز رأوا الشاب المسكين "أدهم"، الخارج تواً من المعتقل، فاتهموه بأنه فار من الخدمة العسكرية، وأنه الآن ذاهب إلى إدلب لينضم إلى الإرهابيين..
ثم نزل والدُه المسكين، السيد أبو كمال، وصار يتوسل لعناصر الحاجز أن يتوقفوا عن ضربه، وسبابه، ودسَّ في يد رئيسهم مبلغاً كبيراً من المال، ففرح به، وَأمر عناصره بترك أدهم، وقالله: والله يا كرّ لم أكن لأتركك لولا خاطر هذا الشايب المقدَّر والدك. يا الله انقلع من خلقتي، يلعن بَيّ بَيَّكْ.
بعد انطلاق الميكروباص من منطقة الحاجز، تحدث أبو أحمد همساً مع "أبو كمال"، ناصحاً إياه بألا يفرح بنجاة ابنه من الحاجز الأول، فتتمة الطريق إلى إدلب ستكون ملأى بالحواجز والمخاطر، والمتوقع أن كل مَن يرى أدهم سيرتاب بأمره، ويعتبره صيداً ثميناً، فهو، أي أدهم، الشاب الوحيد الذي تجرأ منذ زمن طويل على اجتياز الحواجز.. ولا تستبعد أن يركب أحدُ العناصر، في أحد الحواجز قادم، رأسَه، ويحرن مثل جحش المطاربة، ويرفض الرشوة، ويُنزل "أدهم" من الميكروباص، ويعيده إلى المعتقل.
باظت أعصاب "أبو كمال" وهو يسمع هذه التحذيرات التي تبدو ممكنة الحدوث، وحاول أن يتكلم، فاكتشف أن اللعاب قد تجمد في زلعومه، فتح حقيبته، أخرج منها قنينة ماء، أخذ منها بلعة، وسعل، حتى أصبح فمه سالكاً، وقال: وما الحل برأيك يا أخي أبو أحمد؟
اتجهت أنظار الركاب نحو أبو أحمد. وقال أحدهم إن المرحوم والده كان صديق الحاج صطيف أبو زهرة، وكان يحكي له عن فصوله الظريفة ومقالبه..
قال أبو أحمد، وقد استحضر فهلويته كلها: إذا فرضنا أن هذا حصل، والمشكلة كبرت، فإنك ستضطر لرفع معدل الرشوة شيئاً فشيئاً، عسى أن يسيل لعاب رئيس الحاجز، ويقبل بها، ويترك أدهم بحاله، يعني، في المحصلة، سوف تدفع كل ما معك من نقود، ووقتها لن تستطيع أنت وأدهم متابعة الطريق إلى إدلب، لأن هناك حواجز قادمة، إذا وجدوك مفلساً على الحديدة، سيعتقلون الصبي، ويعيدونه إلى السجن، وسيحترق قلبك لأجله، وإذا علمت والدته بالأمر يمكن أن تروح فيها (يعني تموت فوراً).
أبو كمال (مذعوراً): وأين أضع نقودي برأيك؟
أبو أحمد: اترك ربع المبلغ الذي تمتلكه، أو أقل قليلاً، في جيبك، واترك ثلاثة الأرباع الباقية معي، فإذا حصل السيناريو الأسوأ، وحَرَنَ رئيس الحاجز مثل الجحش، وقرر اعتقال أدهم، أنت اعملْ حركة مسرحية: أخرجْ كل ما في جيبك من نقود، وأعطه إياها، واحلف له برؤوس الطيبين والغوالي على أن هذا كل ما تمتلكه، ولكي يصدّق كلامك، جرياً على مبدأ المثل الشعبي القائل (الخـ.. لا يصدق حتى يرى)، اسحب جيبيك إلى الخارج، وارفع يديك إلى الأعلى، وقل له: فتشني، وأي مال تجده معي يحرم علي ويحل عليك.
ثم، وبمجرد ما تسترد ابنك، وترجع بصحبته إلى الميكروباص قل لرئيس الحاجز في قلبك (إن شاء الله تصاب بأمراض لم يسمع بها أحد.. إلهي ربي يبلاك بانسداد الأمعاء والمثانة، فلا تستطيع أن تطرح أي نوع من الفضلات، ويا رب تصرف المال الذي أخذته مني على الأطباء، ومخابر التحليل، والتصوير الشعاعي، ومختبرات الإيكوغراف، والتنظير، والطبقي المحوري، ولا يكفيك ما أخذته مني، فتدفع كل قرش سوري أخذته من المواطنين السوريين على هذا الحاجز، مقابل أن تستطيع إخراج ولو ضرطة واحدة)!
ابتسم أبو كمال، على الرغم من الخوف والألم والحقد، وقد حضره حس النكتة، فقال لأبو أحمد: من دون يمين ضرطته، في هذه الحالة، ستكون أصعب من الكيماوي الذي ضربه ابن حافظ الأسد على خان شيخون.
لاحظ أحد الركاب أن أبو كمال وأبو أحمد يضحكان عالياً، فطلب منهما أن يُشركا بقية الركاب بالنكتة، عسى أن يَضحك الجميع فيفرجوا عن همومهم.
فكر أبو أحمد أن هذه النكتة التي تستخف بعناصر الأمن وتتطرق إلى إجرام ابن حافظ الأسد خطيرة، ولا يمكن التحدث بها على الملأ، فقرر أن يحكي للركاب نكتة أخرى، من قبيل التمويه.
قال: كنت أحكي لأبو كمال عن مقالب الحاج صطيف أبو زهرة، وهو من محبي الضحك والفرفشة، وكان عنده مضافة في مدينة إدلب، ومعروف عنه أنه يمقت الناس الجديين الذين يمضون أوقاتهم بالشغل، وجمع المال، ولا يضحكون للرغيف الساخن.
اتجهت أنظار الركاب نحو أبو أحمد. وقال أحدهم إن المرحوم والده كان صديق الحاج صطيف أبو زهرة، وكان يحكي له عن فصوله الظريفة ومقالبه..
قال أبو أحمد: نعم. وقد أمضى الحاج صطيف حياته كلها بالمزاح والضحك، وخلال وجوده في المضافة، إذا دخل ضيف جدي، وغير ميال للمرح، كان يفتعل معه مشكلة، ويصرفه بالحسنى، وهكذا حتى بقي له من كل مدينة إدلب حوالي عشرة أصدقاء خُلَّص، كلهم من أصحاب المرح والنكتة.. وقد عاش حتى بلغ الخامسة والثمانين من عمره، وأنا أعتقد لو أنَّ كاتباً سجل حكاياته وطرائفه لخرج منها بكتاب ظريف. المهم، عندما وصل الحاج صطيف إلى فراش الموت، كان قد بقي من أصدقائه على قيد الحياة خمسة فقط، سمعوا بأنه ينازع الموت، فجاؤوا لزيارته، لكي يتودعوا منه. وعندما رآهم انفلت بالبكاء، وهذا الأمر أحرجهم كثيراً، فصاروا يطيبون خاطره، وقال له أبو مراد الحجي: لماذا البكاء يا حاج صطيف؟ ما شاء الله عليك. مثل البغل أبو العصبين، إذا ربطناك بشجرة توت وأجفلناك تقتلعها وتركض بها!
قال الحاج صطيف: ما في صحة ولا عافية. أنا أموت بالفعل. ولكن أنتم، من غبائكم، تعتقدون أنني بكيتُ لأنني سأموت.
اندهشوا، وقال أبو سليمان القبلي: على أيش تبكي إذن؟
قال: إنني أبكي عليكم أنتم، أصدقائي، فإذا مت أنا، من سيضحك عليكم يا مساكين؟
قال هذه الجملة ومات.
(للسالفة تتمة)