آرون بوشنل.. هل وصلت الحرائق إلى واشنطن؟
عبد الحفيظ العمري
تتعامل أميركا في مغامراتها العسكرية الخارجية على طريقة "رامبو" (شخصية خيالية)؛ حيث تحلّ كلّ ما يصادفها من عقبات بالمزيد من إطلاق النار. وهي تظن أنّها بهذه الطريقة ستجعل العالَم يخضع لها على الدوام، وكأنّ العالَم في فيلم من أفلام رعاة البقر (الكابوي).
يجب أن نتذكر أنّ أميركا لم تعد وحدها القوة العظمى والكونية، فهناك عماليق آخرون على الساحة الدولية، فهل حسبت حساب الصين مثلاً؟ وماذا عن روسيا التي لا تزال تخوض حربها في أوكرانيا للعام الثاني على التوالي، على الرغم من كلّ الدعم الغربي السخي لأوكرانيا، والمقاطعة والعقوبات الاقتصادية المتزايدة على روسيا؟
تبدو أميركا "بعباً" في أعين الاتحاد الأوروبي الذي تمّ احتواؤه في جيب النسر الأميركي بعد اتفاقية بريتون عام 1944م، والتي نصّبت الدولار ملكاً على باقي العملات بنفس سعر الذهب، كي تصبح أوروبا الموّحدة بعد خمسين عاماً دعامة أوروبية في حلف الناتو الذي تهيمن عليه أميركا. وعلى غرارهم يكون العرب في عالمنا العربي الكسير. لكن، هل انتهت القصة هنا؟
هناك في التفاصيل قضية مستمرة منذ أكثر من خمسة وسبعين عاماً؛ إنّها قضية فلسطين، بكلّ التفاصيل التي نعرفها، وكذلك التي لا يعرفها البعض منا!
لم تلتفت إدارة العجوز بايدن إلى ماراثونات المظاهرات الجماهيرية للشعب الأميركي المنادية بإيقاف الحرب على غزّة، تلك المظاهرات التي لم تتوقف حشودها منذ بداية الحرب
هذه القضية هي الصداع الذي تعاني منه أميركا، إذ تتولى في كلّ مرة دعم إسرائيل عندما تقوم هذه الأخيرة بإحدى مغامراتها العسكرية الهمجية، بما يليق بدولة احتلال؟
وأي دعم تقدمه أميركا السياسية؟ إنّه دعم يشمل كلّ المستويات؛ ابتداءً من مخازن الأسلحة وليس انتهاءً عند الفيتو الأميركي في مجلس الأمن الدولي، حتى يدفعنا هذا الكرم الأميركي الثابت، بالرغم من تبدّل شخوص الإدارة الأميركية في البيت الأبيض، إلى التساؤل: مَنْ يتحكّم بالآخر؟ إسرائيل بأميركا أم العكس؟
أقول: قد طُرح هذا التساؤل مراراً خلال العقود الماضية، لذا فلن أستعرض الإجابات المتباينة عن هذا التساؤل، فلسنا في مجال عرض تاريخي للدولتين، إلا أنّ ما أطمئن إليه هو أنّ الدولتين ترتبطان بعلاقات متشعبة متينة (وليست سياسية فقط)، تجعل كلّ واحدة منهما في خدمة الأخرى، بعيداً عمن يهيمن على الآخر!
لكن أميركا تطرّفت في دعمها لإسرائيل في حرب غزّة التي لا يزال أوارها مشتعلاً حتى اليوم، في لا مبالاة بكلّ ما يجري على الأرض الأميركية نفسها؛ فلم تلتفت إدارة بايدن إلى ماراثونات المظاهرات الجماهيرية للشعب الأميركي المنادية بإيقاف الحرب على غزّة، تلك المظاهرات التي لم تتوقف حشودها منذ بداية حرب إسرائيل على قطاع غزّة بعد اندلاع معركة "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.
مَنْ يتحكّم بالآخر؟ إسرائيل بأميركا أم العكس؟
وهكذا، وجدت أميركا نفسها محشورة في هذه الحرب بقوة؛ وقد صار الأمر لا يُخفى على أيّ متابع لمجريات الأحداث؛ لكن الذي لم يكن في بال ساستها هو أن تصل حرائق هذه الحرب إلى واشنطن العاصمة. ففي عصر الأحد الماضي الخامس والعشرين من فبراير/ شباط المنصرم، أقدم الجندي في القوات الجوية الأميركية الشاب آرون بوشنل على إضرام النار في نفسه أمام مقر السفارة الإسرائيلية في واشنطن، احتجاجاً وتنديداً بالحرب على قطاع غزة.
كانت لحظات فارقة، إذ صرّح قبل لحظات من إضرامه النار في نفسه بأنه لا يريد أن يكون متواطئاً في الإبادة الجماعية، وظلّ يصرخ والنيران تلتهم جسده، في تسجيله المبثوث على وسائل التواصل الاجتماعي: "فلسطين حرة"!
بالرغم من تدخل قوات الأمن لمحاولة إنقاذه؛ إذ أطفأت النار ونقلته بسيارة إسعاف إلى المستشفى، إلّا أنّه توفي بعد 7 ساعات هناك نتيجة إصابته بحروق بليغة. فما الذي دفع شاباً إلى هذا التصرف؟ أليس هذا ما يتبادر إلى أيّ ذهن يشاهد الحادثة؟
بيد أنّ هذا سؤال لم تجب عنه كبريات الصحف الأميركية، وهي تنقل الخبر بطريقتها الجافة والمشذّبة؛ فلم تذكر غزّة ولا الحرب هناك، ولا كلماته الأخيرة، ولا شيء! وكأن الشاب أقدم على فعلته تلك، هكذا بلا أسباب!
حتى في المؤتمر الصحافي الذي عقده البنتاغون ثاني يوم بعد الحادثة، فقد قال المتحدث باسم البنتاغون الميجور جنرال بات رايدر: "إن وزير الدفاع لويد أوستن على علم بالوضع ويتابعه"، مستطرداً بالقول: "إنه بالتأكيد حدث مأساوي، ونقدّم تعازينا لعائلة الجندي بالقوات الجوية"!
ثمّة تناقض غريب بين أميركا الرسمية، المتشدّقة بحقوق الإنسان ومبادئ الثورة الأميركية و... إلخ، وهي تشارك في الإبادة الجماعية بحق شعب أعزل على أرض فلسطين، بكلّ أنواع المشاركة الممكنة، وبين الشعب الأميركي، الذي لا تتوقف مظاهراته، واحتجاجاته ضد ما يقوم به ساسته. فهل يلتفت العقلاء من ساسته، إن وُجدوا، إلى هذه النيران التي اشتعلت أمام مقر سفارة الكيان الصهيوني؟