أبو الفلاح يكتب عن دولاب الدولة المصرية (1)
"عندما أتساءل عن مستقبل مصر السياسي فإن تفكيري لم يعد هو نفسه، عندما أتحول بعقلي إلى هذا الشعب المرح، الرقيق مثل الطفل والذي يتحول في لحظة إلى مشاغب كالطفل أيضا. كم من الحكام احتلوها، كم من الشعوب دهست بأقدامها أرض مصر بدءا من ملوك الرعاة إلى آخر المماليك، جميعهم تركوا آثار أقدامهم وبصماتهم العظيمة على أرض مصر من أهرامات وتماثيل ضخمة ومعابد ومآذن ومنارات وعجائب كلها سحر ورونق، كلهم استغلوا وتجاوزوا الحدود في استغلال هذا الشعب الذي عمل بجد وعرق وشيد لهم هذه الروائع والآثار التي نعجب بها دون أن نفكر في الألم الذي عانى منه الشعب، في حين أن لا أحد من هؤلاء الحكام استطاع التغلغل في أعماق هذا الشعب الذي ظل ساكنا مثل المحيط. لكن الآن دخل عنصر جديد في كيان هذا الشعب، العدالة التي تشكل أمامهم الحياة الفردية، وهو عنصر التقدم الذي حل محل الحياة "الكومونية"
الجماعية والأساس التقليدي للاقتصاد الاجتماعي والحكومي في الشرق الذي يعد فيها الفرد جزءاً من الكل، جزءاً من مجموع يضيع بداخله، أيا كان المستقبل الذي ينتظر مصر أن تستقل أو تظل محتلة فإن العدالة ستظل قائمة تقف بين الحاكم والمحكوم. إن الفلاح أصبح مسلحاً بها ولن يُحرم مجبراً من ثمار تعبه وحرثه. إن ما سيعطيه الله له سيتمكن من الحفاظ عليه والتمتع به والتسبيح بحمد الله. إن بلاده لم تعد بلاد عبودية وبيته لم يعد بيت عبيد. الله أكبر. كل شيء يأتي من عنده وفيه تكمن أسباب القوة والنجاح".
إذا كنت قد نسبت هذه الكلمات إلى كاتب سياسي أو مفكر يساري النزعة، فأنت مخطئ، لأن هذه الكلمات التي تختلط فيها الحقائق بالتمنيات، كتبها واحد من أشهر السياسيين "المصريين"، وقد وضعت جنسيته بين قوسين، لأنه لم يكن مصري الجنسية رسمياً برغم أنه كان واحداً من أشهر من حكموا مصر وأداروها لسنوات طويلة. أتحدث عن بوغوص نوبار باشا أشهر الوزراء "التكنوقراط" في تاريخ الوزارات المصرية، والذي يشتهر لدى عدد من المؤرخين بأنه أول رئيس وزراء بالمعنى الحديث في تاريخ مصر، وقد كتب هذه الكلمات في مذكراته في مايو 1894 وهو في الخامسة والستين من عمره، بعد حوالي خمسة عقود قضاها متدرجاً في المناصب الإدارية والسياسية منذ أن وصل إلى مصر عام 1842، وحتى تركها بعد استقالته من رئاسة الوزارة عام 1895 لينسحب من الحياة السياسية ويكتفي بما قدمه في مشواره المهني، معتزاً على نحو خاص بلقب "أبو الفلاح" الذي أطلقه عليه بعض كتاب عصره، ليدخل بعد استقالته بثلاث سنوات في أزمة صحية خطيرة ويفارق الحياة عام 1899.
قرر الخديوي إسماعيل أن يستبدل بالمديرين ومفتشي الضرائب من ذوي الأصول التركية، مديرين من أبناء الفلاحين المصريين
كانت مذكرات نوبار باشا قد صدرت بالفرنسية قبل سنوات طويلة من ترجمتها إلى العربية، ونشر الأستاذ نبيل زكي مقتطفات منها بعد ترجمتها من الفرنسية، ثم قام جارو روبير طبقيان بترجمتها كاملة وصدرت عن دار الشروق قبل عدة سنوات، لتشكل إضافة مهمة إلى المكتبة التاريخية، لما يرد فيها من تفاصيل مهمة عن طريقة إدارة دولاب الدولة المصرية التي كان نوبار باشا واحداً من أهم كهنتها وسدنتها. وستكشف لك قراءة المذكرات أن ما يرويه نوبار باشا عن طريقة إدارة الدولة المصرية في عهد محمد علي باشا وأسرته، ظل حاضراً بنفس جوهره بل وبكثير من تفاصيله في عهد الضباط الذين أطاحوا بحكم أسرة محمد علي، والضباط الذين تعاقبوا على حكم مصر، خصوصاً حين يتعلق الأمر بطريقة اتخاذ القرارات بشكل عشوائي، حيث يندفع الحاكم إلى اتخاذ قرارات قاسية لحل الأزمات الاقتصادية التي تهدد نظامه، ثم حين يشعر أن زمام الأمور سيفلت من يديه بسبب آثار تلك القرارات، لا يقوم بتصحيح أخطائه، بل يلجأ للتضحية بأحد معاونيه ويحمله وحده أوزار قراراته الخاطئة، وهو ما كان يرضي نسبة كبيرة من رعاياه أو مواطنيه إن شئت، حتى لو ظلت القرارات الخاطئة سارية.
يحكي نوبار باشا أنه حين قام محمد علي بفرض ضريبة "الفِردة" سيئة السمعة، والتي ألزم بدفعها جميع الرجال والنساء والأطفال في عهده، وكان يتم جمعها بطريقة تثير الرعب، ظلت حكاياتها حاضرة في ذاكرة أجيال متعاقبة، لدرجة أن مصطلح "فِردة" لم يخرج من العامية المصرية من وقتها، وظل تعبيراً عن أي مبالغ يتم طلبها أو تحصيلها بشكل متعسف، وبرغم أن محمد علي كان يدرك استحالة جمع هذه "الفِردة" من الكثير من المصريين الفقراء، إلا أنه صمم على فرضها لتخفيف الأعباء عن خزانة الدولة، وحين أدرك تصاعد الغضب الشعبي ضده بسببها، قرر أن يتخذ خطوة لتخفيف هذا الغضب، يحكي نوبار باشا عنها قائلاً: "ذهب إبراهيم باشا ابن محمد علي ورجله القوي إلى المنصورة، واجتمع بالمشايخ في اجتماع عام حيث استمع فيه إلى شكاويهم وتوسلاتهم، ومتلمسا لهم العذر قال لهم إن الخطأ ليس خطأ أبي الذي يتم إخفاء الحقيقة عنه، بل إن الخائن هو الملتزم الذي يقوم بجمع هذه الضرائب ويحصلها بكل هذه القسوة وهو جالس إلى جواري في هذا المجلس، وأشار وسط خجل المشايخ إلى المعلم غالي ناظر المالية وهو قبطي اصطحبه إبراهيم معه إلى الاجتماع ثم سحب مسدسا من حزامه وأطلق النار مباشرة عليه فأرداه قتيلا وسط المجلس الذي انسحب منه الشيوخ في الحال مذعورين وساد إحساس بالرضا ولكن ظلت الضريبة سارية"، ثم يعلق نوبار قائلاً على هذه الواقعة: "ويبدو أنه يجب أن تسير الأمور هكذا في البلاد التي تحكم فيها السلالات الغازية حيث تتطابق الأساليب وتتشابه، ويحتاج الحاكم إلى بوق يردد ما يريد وضحية يضحي بها في اللحظة التي يثور فيها الناس من أجل تهدئة غضبهم".
تكررت نفس السياسة في عهد الخديوي إسماعيل الذي أغرق الدولة في الديون والقروض بعد سلسلة من المشاريع الضخمة غير المدروسة، وحين نفدت موارد الدولة وعجز الجُباة عن جمع المزيد من المال من المصريين، قرر الخديوي إسماعيل أن يستبدل بالمديرين ومفتشي الضرائب من ذوي الأصول التركية، مديرين من أبناء الفلاحين المصريين، ليس تشجيعاً منه للمنتج الوطني، وإنما لأن "الفلاحين يعرفون بعضهم البعض وسيعرفون كيف يستخلصون المال بشكل أفضل من الأتراك"، طبقاً لنص ما قاله لنوبار باشا الذي راجعه في القرار، وحين اتضح خطأ تلك السياسة لم يوجه أحد اللوم إلى الخديوي، بل دفع الثمن المديرون ذوو الأصول الفلاحية الذين فرحوا في البداية بوظيفتهم، وبعضهم دفع حياته، وبعضهم دفع الثمن من حريته وسمعته، ولم يتحدث أحد عن "ولي النعم" وقراراته المتخبطة وغير المدروسة.
...
نكمل غداً بإذن الله.