أبو جويد والكَبَّاسون
كنتُ أحكي لصديقي أبو سعيد عن أبو جويّد، وكيف تحوّلت قضيةُ زواجه إلى "قضية رأي عام"، بدليل أنّ عدداً كبيراً من أصدقائه ومعارفه كانوا يتدخلون فيها، ويُدلون بدلائهم، ثم يتناقلون ما جرى فيها كما لو أنّه نكتة، وقد عبّر لي، ذات مرّة، عن ذلك بقوله:
- صارت قضيّة زواجي، يا أبو مرداس، مثل الطاحون، كلُّ مَنْ لديه (شكارة قمح)، يستطيع أن يُحضرها إلى الطاحون، ويسجّل دوراً عند الطحان، وعندما يحين دَوْرُهُ يصب شكارته في الدلو.
- ولكن يبدو أنّ صاحبك أبو سليمان الطوط كان يأخذ دوره ودور غيره.
- نعم. والسبب أنّ الطوط أكثر ظرفاً، ومثابرة، من غيره، والحالات التي كان يعرضها عليّ مسليّة، ومُضحكة، تصوّر أنه يحدّثني، بجديّةٍ كاملةٍ، عن عروس (لقطة)، جميلة، ونعومة، وما في أحلى منها، ويذكر في حديثه، فجأة، اسم فنوش. وأنا أسأله: مين فنوش؟ يقول لي: العروس. فأضحك وأقول له: أيرضيك يا طوط، أنا صديقك الحميم أبو جويد، بعد طول فقر وشرشحة وعنوسة وكساد، أتزوّج وامرأة اسمها فَنُّوش؟ فيقول لي: اسكت ولاك (طَشَنة)، اسكت، هي اسمها أفنان، ولكن أهلها يدلعونها باسم فنوش.
ويضحك أبو الجود، ثم يقول: إيه. الله يرحمك يا والدي. أموت ولا أنسى ما قاله لي في آخر أيامه.
- أيش قال لك؟
- تنبّأ لي بأنّ زواجي سيتأخر، بسبب الإفلاس، وأفادني بأنّ الزواج مثل (طَقّة التفنكة)، أي إطلاق النار من البارودة، بمعنى: إذا كانت أمورك جاهزة، وجيبك مليان فلوس، تستطيع أن تخطب وتتزوج في غضون يومين، وأمّا العريس المفلس مثلك يا ابني، فيصبح (ملطشة) للعروس التي تسوى والعروس التي ما بتسواش.. وأنا فهمت كلام والدي واستوعبته، لذلك يئست من صلاح وضعي، ووافقت على أن يحكي في زواجي مَن يشاء، وبهذا أتسلى، وأتعايش مع وضع العزوبية المُزمن.
مأساته الحقيقية هي الفقر، ولكنه كان يحوّلها إلى نكتة، أو سلسلة من النكات المبتكرة
- هل تسمح لي هنا بتعليق؟
- تفضّل أبو مرداس، أنت تأمر.
- أرى أنّ والدك المرحوم كان يتحدّث عن زواجك كما لو أنّه شأن خاص بك، وأنّه لا علاقة له بالموضوع. أيش كان يخسر لو ترك لك داراً محترمة، أحسن من هذا الوكر، وأرضاً مُشجّرة بمئة عود زيتون، أو دكانة في الساحة التحتانية تتزوج من غلتها، وتعيش أنت وزوجتك (الست فنوش) منها؟
- ولكن يا أبو المراديس، أنا أرى أنك متحامل على والدي، بدليل أنّك تتهمه بأنّه لم يورثني شيئاً.
- أنا آسف. هل ورثك؟
- طبعاً، ورثني قائمة كان قد سجل عليها ديونه، بلغت، في تلك الأيام 33 ليرة وربع.
- أف. وماذا فعلت بها؟
- أخذتها، وأجريت جولة على الدائنين، واحداً واحداً، وأوضحت لهم أنّ هذا الدين أصبح عليّ، وإن شاء الله تعالى سأعمل على تسديدها.
- وسددتها؟
- لا طبعاً، لم أستطع. وبالمناسبة، ثمّة عادتان أخريان ورثتهما عن والدي المرحوم.
- ما هما؟
- عادة الاقتراض، وعادة التهرب من الدائنين بسبب عدم القدرة على السداد.
قال أبو سعيد: أنا أعتقد أنّ أبو جويد من أجمل الشخصيات الفكاهية التي مرت بمدينتنا إدلب، مأساته الحقيقية، برأيي، هي الفقر، ولكنه كان يحوّلها إلى نكتة، أو سلسلة من النكات المبتكرة.. وهذا أمر قلّما تجده عند غيره.
- كلامك صحيح، 100%. وكان ذكياً إلى درجة أنّه كان يخترع أفكاراً تتحوّل، مع مرور الزمن، إلى مصطلحاتٍ، يستخدمها الناس في المدينة كما لو أنّها جزء من ثقافتهم.
- مثل ماذا؟
- ذكرت لك سابقاً أنّه أطلق على منزله اسم "الوكر"، وكنّا نحن أصدقاءه نقول حينما يغيب عنّا: أبو جويد (مُوَكِّر)، ومن هذه التسمية اشتق أبو جويد لقباً غريباً أطلقه صديقنا المشترك أبو فوزي، هو: الطَفَّاش.
- لم أفهم.
- سأشرحها لك. الطفاش لقب يُطلق على صيّاد الضباع. كان الطفاش يصنع قفصاً حديدياً، يحمله، ويذهب به إلى الوكر الذي تسكنه أسرة ضباع، يثبته عند الباب، ويذهب إلى الطرف الآخر، يحفر في جدار الوكر حفرة، ويُدخل فيها قضيباً ينتهي بخرقةٍ مبلّلةٍ بالمازوت، ويشعلها، فيتسرّب الدخان الكثيف إلى جوف الوكر، يؤثّر ذلك على تنفّس الضباع الموجودة فيه، فتندفع خارجةً من البابِ الرئيسي، فتجد نفسها داخل القفص.
- خطة ذكية، ومتقنة، ولكن ما هو وجه الشبه مع أبو فوزي؟
كلّ مدينة، أو بلدة، أو قرية، لها خصوصيّة في التنكيت وصنع المقالب، ونحن لا نعرف الكثير عنها، ولكن إدلب، بالفعل، تتميّز بالفكاهة الذكية
- عندما كثرت الديون على أبو جويد، لجأ إلى عادة التهرّب من الدائنين التي ورثها عن والده، وصار يمكث في بيته (وكره)، لا يفتح الباب لأحد، خشية أن يعلق بيد الدائنين، ولكن أبو فوزي كان يُخرجه بخططٍ متنوعة، بالغة الذكاء، منها أنّه كان يقف مقابل الثقب الذي أحدثه أبو جويد في الجدار، ويصيح باسمه عدداً من المرات، وإذا فشلت هذه العملية يستأذن الجيران، ويصعد إلى سطح دارهم، ويمشي حتى يصل إلى سطح دار أبو جويد، وينزل الدرج وهو يصيح: وينك يا أبو جويد؟ افتح لا تخف هذا أنا. وكان أبو جويد يقول له ممازحاً:
- لم يبق إلا أن تنزل علي بالهليوكبتر، أو بالمظلة.
علّق أبو سعيد على هذه الحكايات بقوله: لا أظن أنّ مثل هذه الأمور تحصل في مدن أخرى غير مدينة إدلب.
قلت: كلّ مدينة، أو بلدة، أو قرية، لها خصوصيّة في التنكيت وصنع المقالب، ونحن لا نعرف الكثير عنها، ولكن إدلب، بالفعل، تتميّز بالفكاهة الذكية. ومن ابتكارات أبو جويد، كذلك، أنّه كان يسمّي الدائنين: كَبَّاسين.
- هذه، أيضاً، تحتاج إلى شرح.
- عندما يريد رجال الشرطة القبض على مجرم من النوع الخطير، لا يأتون إلى داره ويطرقون الباب ويسألون عنه، بل يضعون خطة، وينفذون ما يسمّى (الكبسة)، وتتلخص في أنّهم يأتون فجأة إلى الدار، ويداهمونها، فإذا عثروا عليه كبلوه واقتادوه إلى مخفرهم. وعلى هذا الأساس أطلق أبو جويد على دائنيه لقب الكبّاسين.