أبو عبيدة رصاصة في رأس آلة الحرب الإسرائيلية
بعد غيابٍ دام 17 يومًا، عاد الناطق العسكري لكتائب الشهيد عز الدين القسام لإطلالته المعهودة مفندًا مزاعم إسرائيلية باغتياله، ومسجلًا هدفًا في ملعب الاحتلال ليؤكد استمرار المقاومة وبسالتها وشراستها في جميع ميادين الحرب البرية في قطاع غزة، ورغم أن أبا عبيدة لم يأتِ بجديدٍ يذكر في خطابه، فقنوات الإعلام العسكري تنقل مجريات الحرب الميدانية وخسائر الاحتلال أولًا بأول، ألا أن ظهوره مثّل رافعةً معنوية كبرى للفلسطينيين والعرب ومناصري القضية الفلسطينية ممن اتكؤوا على خطاباته المؤكدة أن الحرب لم تُحسم بعد لصالح الاحتلال، وأن المقاومة لم تستسلم أو تتراجع، وأن جعبة المقاومة ما زالت تحفل بالمزيد.
"ادخلوا عليهم الباب"
للمرة الأولى في تاريخ الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي، يسجل الفلسطينيون نصرًا حاسمًا لا شائبة فيه على الصعيد الإعلامي، رأس حربته إعلام عسكري وناطق رسمي وخطابٌ مرن، قرأ جمهوره وأعداءه، ولعب على جميع الأوتار برشاقة واقتدار قل نظيره.
ففي اللحظات الأولى من السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، خرج محمد الضيف، القائد العام لكتائب الشهيد عز الدين القسام، معلنًا بدء حرب المقاومة على الاحتلال وإطلاق أكثر من 5 آلاف صاروخ على الأراضي الفلسطينية المحتلة، وموجهًا ندائه في الوقت ذاته للفلسطينيين في جميع أماكن وجودهم، ولـ"إخوة المقاومة" بالالتحام والمشاركة في المعركة.
وفيما كان التخبط يحيط بالجانب الإسرائيلي وتغيب البوصلة، أضحت الصور التي بثها الإعلام العسكري للحظات الاقتحام الأولى المصدر الوحيد لمعرفة ما يجري في هذه البقعة من العالم.
رغم ذلك، لم تتوقف الذراع الإعلامية، أو ما اصطلح على تسميته بـ"الإعلام العسكري لكتائب الشهيد عز الدين القسام"، عن نشر فيديوهات وصور توثّق مجريات القتال وتداعياته، ولاحقًا كان لأبي عبيدة "الناطق الرسمي باسم كتائب عز الدين القسام" حصة ثابتة من التأثير في مجريات الحرب ونفوس أهلها، التزم فيها بآية "ادخلوا عليهم الباب.." شعارًا لمعركة طوفان الأقصى، مدعمًا خطاباته بالأرقام والتفاصيل والحقائق التي تكشف زيف الدعاية الإسرائيلية وترفع أسهم المقاومة في عيون شعبها ومناصريها، ما دفع الجانب الإسرائيلي لإصدار قانون يحظر تداول أو نشر ما يصدر عن الإعلام العسكري والناطق باسمه.
ملامح "أبو عبيدة"
لم تأت حرب السابع من أكتوبر بأبي عبيدة، فقد عرفته الجماهير الفلسطينية ناطقًا رسميًا باسم القسام منذ ظهوره الأول عام 2006 ليعلن اختطاف جلعاد شاليط، وتتالى ظهوره بالتزامن مع الفعل المقاوم الفلسطيني، حتى ازداد وجوده نفسيًا وجماهيريًا في وعي الإنسان العربي والفلسطيني، منذ خطابه في السابع من أكتوبر، حتى ظهوره ما قبل الهدنة في اليوم الثامن والأربعين من الحرب.
يظهر أبو عبيدة دائمًا بلباس المقاومة العسكري الخاص، وبمسمى الناطق العسكري، وعلى كتفه العلم الفلسطيني، وفوق جبينه الملثم بالكوفية الحمراء عصبة خضراء بشعار كتائب عز الدين القسام.
في الخلفية دائمًا هناك شعارٌ وآيةٌ تسم المرحلة وتمثل عنوان الخطاب وهيكله، يبدأ أبو عبيدة خطابه، بعد التسليم والصلاة على النبي، بالتوجه للشعب الفلسطيني "المجاهد والأبي الصابر.."، والأمة العربية والإسلامية، وأحرار العالم، ولا يخلو خطابه من رسائل واضحة وصارمة للمحتل.
لم تأت حرب السابع من أكتوبر بأبي عبيدة، فقد عرفته الجماهير الفلسطينية ناطقًا رسميًا باسم القسام منذ ظهوره الأول عام 2006
رسائل "أبي عبيدة"
في جميع خطاباته، يحدد الناطق العسكري عدد ما مضى من أيام الحرب، ويشير إلى آخر أحداثها وتطوراتها، ويتطرق إلى الوضع السياسي، بما لا يتيح المجال لأي متابع أن يصف التسجيل أو الفيديو بأنه قديم.
كما يُحرَص على عدم وجود هامش زمني بعيد بين الخطاب والآخر، فباستثناء الأيام الأربعة الأولى، 7/8/9/10، التي ظهر فيها يوميًا، غدا ظهوره متقاربًا بواقع مرة كل ثلاثة أيام، باستثناء فترة الهدنة التي امتدت لسبعة أيام، وما تلاها من عشرة أيام من الغياب فسرها مراقبون بأنها حيطة أمنية مدروسة.
ولكل خطاب سمة عامة، وشعارٌ يعبر عما يجري على الأرض ويظهر مكتوبًا في خلفية الناطق العسكري أثناء الخطاب.، مثل "غزة مقبر الغزاة، لعدوهم قاهرين، فإنهم يألمون كما تألمون، نصرةً للمدينة المقدسة"، أما خطابه الأخير فقد حمل الآية القرآنية: "ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذابٍ من عنده أو بأيدينا".
يعالج أبو عبيدة بكلماته آخر المطبات النفسية والإعلامية التي تمس المشهد الفلسطيني بسلاسة لا تتوفر لدى السياسيين، وبثقة من الجمهور لا يكاد يحظى بها سواه، فهو يفند رواية الاحتلال عن قطع رؤوس الأطفال، ويسندها بفيديوهات تظهر إنسانية مقاتلي القسام.
كما يهدهد على نفوس الغزاويين خاصة، والفلسطينيين عامة، حين يتحدث عن شجاعة وبسالة المقاومين، وما أحرزوه من كمائن وإثخان في صفوف العدو.
يبدو أبو عبيدة لاعبًا ماهرًا على وتر النفوس الإسرائيلية، فيفصح عن أسيرات يرغب القسام بتحريرهن ويرفض الاحتلال استلامهن، ويشير إلى تخبط آلة الحرب الصهيونية وكذبها، واتكائها على دعم الولايات المتحدة.
ولا ينتهي الخطاب حتى يوجه رسالة أخرى لـ"أبناء شعبنا العظيم" دائمًا، وتأكيده وعود المقاومة لأبنائها.
الرسائل تطاول أحيانًا داعمي المقاومة في اليمن والعراق ولبنان، ولدول العالم لتحذير مواطنيها من حملة الجنسيات المزدوجة، أو للاحتلال باستمرار المقاومة، أو للدول الغربية للإشارة إلى انحيازها.
لتكون جملته الأخيرة شعار القسام الدائم: "وإنه لجهاد.. نصر أو استشهاد".
ما بعد صمت الناطق العسكري
ما إن ينتهي خطاب الناطق العسكري، حتى يبدأ الجمهور الفلسطيني والعربي بتداول آخر ما تناوله الخطاب، أحيانًا يلفت أبو عبيدة إلى فيديوهات لاحقة تنقل الجمهور إلى ميدان المعركة وتضعهم في صفوفها الأولى مع بسالة المقاومين، أحيانًا أخرى يكون الفيديو موجهًا للجمهور الإسرائيلي الذي يصم إعلامه أذنيه عن مطالب أسراه ورغبتهم في صفقة تبادل سريعة مع المقاومة.
لكن دائمًا هناك ما يعلق في الوعي والوجدان، حيث تشتمل خطابات الناطق العسكري على جملة من العبارات التي أضحت "ترندًا" بين الجماهير العربية، مثل "يا حثالة الأمم، يا ابن اليهودية، لا سمح الله".
في أحيانٍ أخرى، تداخل خطاب أبي عبيدة مع خطابات أخرى لقيادات عربية أو فلسطينية أو حتى عالمية، فصم الجمهور آذانه عمن سواه، وأصغى لأبي عبيدة.
ينقل الأهالي أيضًا صورًا لأبنائهم يتابعون كلمة أبي عبيدة، ويحاولون تقليده صوتًا وهيئةً، فيما يرونه "قدوة" أضحت مرسخة في أذهان أبنائهم.
ظاهرة "أبو عبيدة" في الإعلام العسكري
مع استمرار الحرب على قطاع غزة والعدوان المستمر على الضفة من قبل الاحتلال ومستوطنيه، لجأت فصائل مقاومة أخرى لاستنساخ ظاهرة أبي عبيدة في ناطقيها الرسميين، واستثمرت في خطابها الإعلامي بأسلوب الإعلام العسكري لكتائب القسام نفسه.
فأخرجت مقاطع صوتية وأخرى فيديو اتسمت بذات الملامح التي وسمت خطابات أبي عبيدة، ملابس عسكرية، لثام وتحية، بداية موجهة للشعب الفلسطيني والعربي والمتعاطفين مع المقاومة في العالم، مضمون خاص بآخر ما يجري على الأرض، رسائل للداخل الصامد والآخر المشارك والعدو، وشعار لا يغيب.
الإدراك لفعالية الإعلام العسكري وأدواته لم تقتصر على مقاومة غزة فقط، بل تعداها إلى المقاومة وفصائلها في الضفة الغربية، التي تماشت أيضًا مع لغة بيانات المقاومة في غزة، امتد ذلك إلى هجمات المقاومة في العراق على القواعد العسكرية الأمريكية، وبيانات الحوثيين عن طائراتهم المسيّرة وهجماتهم على إيلات.
صمت أبو عبيدة ولو إلى حين
مع بدء سريان الهدنة، وإتاحة المجال للذراع السياسية لجمع ثمار الحصيلة الأولى للمقاومة واستثمار منجزاتها في صالح الشعب الفلسطيني، توقف أبو عبيدة عن الظهور في خطابات صوتية أو مصورة، فما كان ينقله من بين غبار المعركة قد خفت أواره اليوم، لكنه واصل بياناته المكتوبة، كما واصل الإعلام العسكري الضرب على جرح آخر للمحتل الإسرائيلي من خلال فيديوهات تسليم أسراه.
رغم ذلك، لا ندري فلربما تتجدد المعركة، وربما لا، لكن من المؤكد أن الإعلام العسكري لكتائب الشهيد عز الدين القسام وخطابات الناطق العسكري له قد سجلت انتصارًا ساحقًا لا يمكن تجاهله، وأن التطور النوعي لم يقف عند حدود الصواريخ والطائرات الشراعية والمسيّرة وجسارة المقاومين، بل تعداه إلى خطابٍ يتردد صداه في ذهن العربي والفلسطيني ماحيًا تمامًا أي أثر لبوصلة لا تشير إلى فلسطين.