أبو عبيدة والخطاب الأخير
بعد ثلاثة وثلاثين يومًا من آخر خطابٍ له، وفي الشهر الخامس من الحرب، خرج الناطق العسكري باسم كتائب الشهيد عز الدين القسّام، أبو عبيدة، في كلمةٍ وجّهها إلى أبناء الشعب الفلسطيني والمجاهدين في الميدان وأبناء الأمة الكبيرة الممتدة وأحرار العالم. وعلى مدى إحدى عشرة دقيقة، خرج صوت الناطق العسكري كعادته، حادًّا، قاطعًا، متوعّدًا الاحتلال، مطمئنًا شعبه وأمته، وناسجًا لهم من إيقاع المقاومة ثباتًا أعظم.
تطرّق أبو عبيدة في خطابه إلى عدد من النقاط، أبرزها أنّ معركة طوفان الأقصى قد غيّرت وجه المنطقة، وأنّ الاحتلال لن يهزم شعبًا تعيش المقاومة في وجدانه، ويصنع أطفاله ونساؤه أسطورة العصر في البطولة والصمود.
كما شدّد على أنّ المقاومة الفلسطينية مستمرة في المواجهة، وتُوقع العدو في كمائن محكمة، وتكبّده خسائر فادحة، رغم ما يمارسه من سياسة الأرض المحروقة، وأنّها تتوازى في ذلك مع قوى المقاومة التي تتواصل وتتعاظم على كل الجبهات.
وفي تجاوزٍ لافت، لم يتطرّق الناطق العسكري إلى أيّ تعداد أو أرقام، رغم أنّ خطاباته لطالما حفلت بالأرقام والمشاهد الخاصة والبيانات، مكتفيًا بأنّ كتائب القسّام تعلنها بتتابع.
لن يهزم الاحتلال شعبًا تعيش المقاومة في وجدانه، ويصنع أطفاله ونساؤه أسطورة العصر في البطولة والصمود
وفي استدراك لما يلاحظه المحللون من تراجع في زخمِ العمل المقاوم خلال الأسابيع الأخيرة، أشار الناطق العسكري إلى أنّ ما يُعلَن إنّما هو جزء مما تنفذه المقاومة في الميدان، في كل مناطق التوغّل والعدوان، شمالًا ووسطًا وجنوبًا، مشدّدًا على استخدامها لتكتيكات مختلفة، وأسلحة متناسبة مع الميدان وظروفه.
خطاب الناطق العسكري وصفَ تصريحات جيش الاحتلال عن تحقيقه خسائر في صفوف المقاومة، بالإبادة المتخيّلة التي يسوّقها لأغراض داخلية ومعنوية، لكنّه رغم ذلك لا يستطيع إقناع حلفائه، أو جمهوره بها.
وقبل أن يختم أبو عبيدة خطابه أكد أنّ المقاومة حاولت حماية الأسرى ورعايتهم وصولاً إلى هدف إنساني سامٍ ونبيل، وهو تحرير الأسرى المظلومين المقهورين، لكن الخسائر في صفوف أسرى العدو باتت كبيرة جدًّا، فيما يعيش المصابون والمرضى منهم أوضاعًا صعبة ويكافحون للبقاء على قيد الحياة.
وهو في ذلك يؤكد ما أعلنه المتحدث باسم جيش الاحتلال في السادس من فبراير/ شباط الحالي دانيال هغاري، من أنّ 32 من أصل 136 من الأسرى قد لقوا حتفهم، فيما كان القسّام قد أعلن في الثاني عشر من فبراير/ شباط الحالي مقتل ثلاثة آخرين.
ليختم كلمته بتحية للشعب المعطاء ولأرواح شهدائه الأبرار، ولمواجهته ومقاومته الثابتة على الثغور.
ما الذي جدّ به خطاب أبي عبيدة؟ لا شيء.. لكن ظهوره كان كافيًا ليفعل في قلوب الفلسطينيين ومعنوياتهم، كل شيء
والواقع أنّ خطاب أبي عبيدة هذه المرّة لم يأت بجديد أو مستحدث، سوى بكونه الخطاب الـ 23 منذ السابع من أكتوبر، وبأهميته كإسنادٍ نفسي ومعنوي كبيرٍ للشعب الفلسطيني، وهدهدةٍ لهم في ظلّ ما يعانونه من ويلات الحرب، وخذلان أمتهم، وتآمر المجتمع الدولي عليهم.
فما بين زاويةٍ وأخرى يعود الناطق العسكري للإشارة إلى المقاومة وأهلها، إلى أطفالها ونسائها ورجالها، إلى معجزاتهم وصبرهم رغم القصف والتجويع والتشريد والإبادة والإزاحة البشرية والتنكيل الوحشي.
الخطاب فيه طمأنة على أنّ روح المقاومة ما زالت عنيدة، فيها من الرمق الكثير، ومن الجلَد ما يعجز العدو عنه، فمن أخبار كمائنها التي تصل أولًا بأول، إلى مباغتتها للعدو من بين ركام الأرض المحروقة، وإيقاعها به الخسائر المحقّقة، إلى توسّعها وتعاظمها والتئامها في مجابهتها للمحتل مع جبهة الشمال في الجنوب اللبناني، وجبهة البحر الأحمر واليمن، وجبهة الجولان وحدوده، وجبهة العراق بطائراتها المسيّرة.
أما في قوله إنّ المقاومة تتواصل شمالًا ووسطًا وجنوبًا، فهو يحيل الوعي الجمعي الفلسطيني إلى عدم التفاؤل بانتهاء الحرب سريعًا أو تجاوز الاحتلال لرفح والوقوف عندها دون ابتلاع، ضامًّا الجنوب لما أصاب الشمال والوسط من هدمٍ وتهجيرٍ وتشريدٍ، رغم أنّه أيضًا لم يسلم من القصف الجوي والبحري والبري.
ما الذي جدّ به خطاب أبي عبيدة؟ لا شيء.. لكن ظهوره كان كافيًا ليفعل في قلوب الفلسطينيين ومعنوياتهم، كل شيء.