أزهى عصور النهب الوطني
تذكرته حين قرأت قبل أيام أخبار القبض على عدد من رجال الأعمال من أبرزهم المهندس صفوان ثابت، لاتهامهم بتمويل جماعة إرهابية، حاولت الوصول إليه لأستأذنه في نشر قصته، لكنني لم أصل إليه، ولذلك سأنشر بعض تفاصيل قصته دون اسمه، لكنني أتوقع أنك ستعرف عمن أتحدث، لأن النشاط التجاري لبطل هذه القصة كان حاضراً في كل المدن المصرية تقريباً، لكنه حين غاب أو غيّبوه عن ساحة البيزنس لم يجد من يتضامن معه أو يبكي على حاله.
التقيت به في نيويورك في صدفة غريبة حدثت قبل عامين ونصف تقريباً، كنت يومها أتسكع في الشوارع المحيطة بجامعة نيويورك في حي مانهاتن، وحين رأيت اللافتة التي تعلن عن افتتاح مطعم جديد للكشري، توقعت أن يكون المكان مقلباً جديداً كالذي شربته من قبل في مطعم تم افتتاحه في حي بروكلين زعم صاحبه أنه سيقدم أطباق كشري كالتي تأكلها في قلب القاهرة، وانفضح زعمه سريعاً فتم إغلاقه.
وقفت على باب المطعم أتشمم الروائح الفواحة، وحين وجدتها منبئة بالخير، حزنت لأن التزامي بريجيم الكيتو سيمنعني من التجربة، وفيما كنت أجري حواراً داخلياً مع نفسي عن فضائل الالتزام وعيوب التحبيك في الريجيم، لفت انتباهي وجهه المألوف وهو يقوم بتستيف ورصّ التقلية التي كان أحد العمال قد صبّها في الإناء الخاص بها، وحين جاءت عيني في عينه، أشاح بوجهه عني سريعاً فيما حسبته انهماكاً في أداء عمله، لكنه بعد لحظة، لحظة تفكير ربما، رفع وجهه ونظر نحوي مبتسماً وأشار يناديني لكي أدخل.
النشاط التجاري لبطل هذه القصة كان حاضراً في كل المدن المصرية تقريباً، لكنه حين غاب أو غيّبوه عن ساحة البيزنس لم يجد من يتضامن معه أو يبكي على حاله
كنت قد قابلته أول مرة في عام 2006 مع محاميّ وصديقي عصام سلطان فك الله سجنه وفرّج كربه في عشاء ضم معنا عدداً من السياسيين ورجال الأعمال يصلح تأمل مسارات حياتهم لعمل روائي عجائبي، وحين عرّفني عصام على صاحبنا ربطت بالطبع بينه وبين اسم المطعم الشهير الذي يحمل اسم عائلته. كنت قبلها بعام قد قرأت خبراً عن انضمامه إلى لجنة السياسات التابعة للحزب الوطني، والتي ضم جمال مبارك إليها العديد من رجال الأعمال الذين يقاربونه في السن، لتكون قاعدة انطلاق لمشروعه في وراثة عرش أبيه، لكن صاحبنا انسحب من اللجنة لأسباب لم يحب أن يفصلها حين سألته عنها، مكتفياً بالقول إنها لم تكن تجربة لطيفة، ولم يكن سياق الجلسة مناسباً للإلحاح في معرفة التفاصيل فأجلت أسئلتي إلى لقاء لاحق لم أكن أعلم أنه سيحدث في نيويورك، وحين حدث كانت الدنيا قد أنزلت عليه من مصائبها، ما جعل السؤال عن تجربته في لجنة السياسات أمراً لا جدوى له سوى تقليب المزيد من المواجع.
"أيوه أنا فلان"، قالها لي وهو يصافحني ليزيل دهشتي التي تحولت إلى ذهول بعد أن تأكدت من شخصه، ولكي يأخذ الموضوع بهزار قال إنني محق في ذهولي لأن النقلة بدت بعيدة بين ذلك المطعم الفاخر الذي تعشينا فيه، وبين التقلية التي وجدته واقفاً عليها، وحين أصررت على رفض دعوته لتجريب الكشري التزاماً مني بقواعد الكيتو، أخذنا جنباً في المطعم، وبدأ يحكي لي قصته المأساوية وتفاصيلها المذهلة التي تلخص الكثير عن أحوال مصر منذ حكمها عبد الفتاح السيسي، حيث دفع الرجل وأسرته ثمناً غالياً لأنه كان قريباً من حزب الوسط الذي كان بين قياداته وبين جماعة الإخوان خلاف حاد استمر لسنوات طويلة، وحين تحالف الحزب مع الإخوان عقب وصولهم إلى الرئاسة، ثم رفض الحزب قرار الإطاحة بمحمد مرسي من رئاسة الجمهورية، دفع العديد من قياداته ثمنا باهظا ولا زال بعضهم يدفع ذلك الثمن الذي استخدمت فيه الأحكام القضائية الموجهة وقرارات الحبس الاحتياطي المتجدد إلى الأبد والقنوات والصحف الطاعنة في الوطنية والانتماء.
كانت التهمة الموجهة لرجل الأعمال الذي أحدثك عنه أنه قام بتمويل المعتصمين في ميدان رابعة الذين لم يكتف نظام السيسي بقتل المئات منهم وسجن الآلاف، بل وقرر محاكمة عدد من ضحايا ذلك اليوم المشئوم في قضية هزلية أطلق عليها اسم (قضية فض اعتصام رابعة)، لتكون تلك سابقة من نوعها سيخلدها تاريخ القضاء المصري في أسود صفحاته. كان من حسن حظ صاحبنا أنه بادر إلى الخروج من مصر في نفس يوم فض الاعتصام، بعد أن تلقى تحذيراً يخبره بوجود نية للتنكيل به، ولا أدري هل كان ذلك التحذير مقصوداً أم أنه جاء من أولاد حلال لم يرضهم ما سيحدث له.
اكتشف صاحبنا بعد ذلك أن تهمة تمويله للمعتصمين، لا يحتاج إثباتها إلى وجود أدلة، ولا يحتاج نفيها إلى غياب أدلة، وأن المطلوب ببساطة أن يقوم بالتنازل الرسمي عن حقوقه في سلسلة مطاعمه الشهيرة والمصانع التي يمتلكها، وحين تباطأ في تحقيق ذلك متصوراً أن القانون سيقف في صفه، تم اعتقال والدته لأيام في خطوة إجرامية لم يكن يتصور أكثر المتشائمين سوداوية أنها ستحدث، ليقوم بتسريع الإجراءات التي تم طلبها منه مقابل الإفراج عنها، وهو يتصور أن ذلك سينهي الكابوس الذي عاشت فيه أسرته، لكنه اكتشف أن ملاحقته لم تتوقف، بل تواصلت في صورة بلاغات دولية تتهمه بتمويل الإرهاب، سببت له الكثير من الإزعاج في بداية إقامته في أمريكا، إلى أن تأكدت السلطات الأمريكية من هزلها، واستطاع بعد فترة من المعاناة أن يقوم بفتح ذلك المطعم الصغير الذي اكتشفت قبل فترة أنه مغلق، ولا أدري هل كان ذلك بسبب تداعيات وباء كورونا أم لأسباب أخرى.
بالطبع لم أقلّب المواجع على صاحبنا، ولم أقل له يومها إنني رأيت عدداً من أصدقائه ومعارفه العقلاء الأفاضل ـ أو من كنت أظنهم كذلك ـ وهم يقومون بترديد الاتهامات الموجهة له، دون أن يتوقفوا للحظة أمام المناخ القمعي المفزع الذي جرى فيه توجيه تلك الاتهامات، والتي دارت الأيام وتم توجيهها لبعضهم حين اختلفوا مع نظام السيسي، وهو ما يتكرر الآن في موجة الاعتقالات الجديدة لرجال الأعمال، التي وجدت بعدها من يفترض بكونهم عقلاء وأفاضل، يبصمون بالعشرة على اتهامات النظام للمعتقلين الجدد بأنهم يقومون بتمويل الإرهاب، لمجرد أنهم يختلفون مع أشخاص هؤلاء أو أفكارهم، دون أن يجدوا من يحدثهم عن الضمانات القانونية الغائبة والاستغلال السياسي لاتهامات الفساد والإرهاب وخطورة الثقة في سلطة مسعورة لا يوجد من يراقبها أو يحاسبها، لأن مثل هذا الحديث عن القانون والضمير والحقوق أصبح يثير السخرية والتأليس، ولذلك يستسهل الكثيرون ـ وبعضهم من معارضي النظام ـ الشماتة والتشفي، ويفرحون بإجراءات كهذه تقوم بها سلطة السيسي وهي ترفع صوتها عالياً بالحديث عن قوة القانون وشموخ الدولة، لتغطي على وضاعة وخسة صفقات النهب الوطني التي يديرها ضباط "شبعة من بعد جوعة"، ولذلك سيواصلون شهية النهب وشهوة البطش حتى النهاية.