أشعب والترند طبق الكشري
تثاقل جفناي، كدت أنعم بوصلة نوم عزيزة الزيارة، لم أنتبه للأوراق بين يديّ، قبلها بثوانٍ أعملت النظر في اعتماد الفعل (استعبط)، وكأنّ عيني تناغمت مع الفعل، لم تشأ أن تسعفني لأنجز أمرًا عاجلًا، وفي منامي زارني من لم يخطر لي يومًا على بال!
أقبل يرفل في أسمال رثة، باهت السّحنة صفيق الوجه، ناداني باسمي من دون سابق معرفة، وسألني بغلظة عن بواعث تجاهله، قلت، والدهشة تبلعني: "أنا لا أعرفك، فكيف أتجاهلك؟". رسم على وجهه ابتسامة بلهاء وشفعها بجواب ملغز: "أنا الذي لم يُحوجك إلى رسول، أشعب بن جبير"؛ شهقت شهقة الملوخية: "الطفيلي!" فأجابني وابتسامته على حالها: "بشحمه ولحمه".
أردف، بنبرة استعطاف، طالبًا مني التوسط لدى مجمع اللغة العربية بالقاهرة، أراد اشتقاق لفظ أو بعض ألفاظ يحتاجها في يومه وليلته، لم أفهم مراده وطلبت منه إيضاحًا أوفى، لعلي أرجع إلى الناس ويصير خير؛ فأخبرني صاحبنا أنه متعدّد المواهب، وأنّ القواميس تضيق عمّا لديه من سعة حيلة وتجدّد عزيمة، وأنهم كانوا يقولون "الوارِش" للداخل على القوم وهم يطعمون ولم يُدع، فإذا دخل عليهم وهم يشربون ولم يُدع سموه "الواغل".
لكنه بحاجة إلى اسم جديد ينضاف للقائمة إذا دخل عليهم وهم يؤدون أدوارًا في عمل تلفزيوني أو سينمائي، وإذا دخل على بعض المغنين، وإذا اقتحم عالم منصات التواصل الاجتماعي وتصدّر التريندات، وإذا ما حشر نفسه في عداد الإنفلونسرز والبكاشين والسارحين مع الذئب، العائدين مع الغنم... وإمعانًا في إقناعي، استشهد أشعب أفندي بقوله تعالى: (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ)؛ "فما يضير المجمعيون إن أجابوا طلبي وأراحوا صدري؟".
إن للتريندات لذّة تعدّل لذة الطعام والشراب، لن أبرح الأرض حتى أطير مع كل هاشتاغ، وأهبّ مع كل ريح، ومن أطمع من أشعب؟!
قلت في نفسي: "طفيلي ومقترح!". وإذا به يلحف في سؤاله، مدعيًا أنّه لم يحظ بتكريم لائق، وأنّ أمثاله اليوم لم يُنسبوا إليه، بل ينسبهم الناس إلى الطفيل بن زلّال، لا لشيء إلا لأنّ الطفيل يمتاز منه بالأقدمية لا بالأفضلية، واستدلّ على أهميته بدخوله بلاط الخليفة الوليد بن يزيد بن عبد الملك، واقتحامه خلوة سالم بن عبد الله بن عمر، وأنه في قابل الأيام سيفجّر مفاجآت كثيرة، لم يصرّح بها مكتفيًاً بقول الشاعر طرفة بن العبد "ستُبدي لك الأيام...".
لم يترك لي مجالًا للمشاركة في الحديث، طمّاع حتى في الكلام، قال (واستبدت به اللذّة) بلغ بي الحال أنّ سؤال الناس صار يجري في دمي، دخل عليّ ابن أبي عتيق وعندي متاع حسن وأثاث، فقال: "ويحك يا أشعب! أما تستحي أن تسأل وعندك ما أرى!". فقلت: "يا فديتك! معي والله من لطيف السؤال ما لا تطيب نفسي بتركه".
أتظنني والحال هذه سأنزل من على المسرح بعد أكلة سمك؟ أو سأتبرأ من سالف عهدي وإن خذلني عوضي؟ أو سأُهزم إن طُردت من عيد ميلاد مي سليم؟ إن للتريندات لذّة تعادل لذة الطعام والشراب، لن أبرح الأرض حتى أطير مع كل هاشتاغ، وأهبّ مع كل ريح، ومن أطمع من أشعب؟!
حانت منه التفاتة يمنة ويسرة، وهمس في أذني "لا تكن أشعب فتتعب"، إنه أسلوب حياة شاق يا هذا، وعلى من يودّ الانضمام إلى حزبنا أن يكون جلداً، صرف همته إلى التطفيل، وابن كار من العيار الثقيل، (طفيليٌ يرى التطفيلَ دينًا/ وقُرةُ عينه غِشيانُ عُرس/ إذا قبضت يداه على رغيفٍ/ يقسّم نهبه بيدٍ وضِرس)، ثم تركني وكأنما نشط من عقال، سألته: إلى أين؟ قال تاقت نفسي إلى تريند جديد وطبق كشري.