أصحيح أن الراديو انتهى؟
ثلاثة أخبار أعادت التذكير بوجود الراديو: أولها إنّ أحدهم، منذ بضع أسابيع، قام بسرقة أرشيف الإذاعة اللبنانية. وهي تقع، للمفارقة، خلف مبنى وزارة الداخلية شخصياً في بيروت.
لم تكن المرة الأولى التي يُسرق فيها الأرشيف اللبناني القيّم. قبلها، وتحديداً خلال الحرب الأهلية، قامت المليشيات المتحاربة بسرقة أرشيف "تلفزيون لبنان" الرسمي، الذي "ظهر" فيما بعد في القنوات الخاصة التي موّلتها تلك المليشيات، والتي لا تزال تبثّ منه حتى اليوم بكلّ صفاقة، علامة غلبتها على الدولة.
تذكر الكثيرون بهذا الخبر وجود الإذاعة. فمنذ فترة طويلة انصرف معظم الناس، أو هكذا بدا، عن الإذاعات، مفضلين المرئي والمسموع على المسموع منفرداً، خصوصاً مع تطوّر جودة الصورة وتوّجه الإنتاج، أي المال، بكامل قوته تقريباً إلى هذه الوسائل أولاً، ولاحقاً بعضه أو معظمه إلى المنصات التي تؤمن الفرجة على وسائل متصلة بشبكة الإنترنت.
قبلها بشهرين ربما، أوقفت "بي بي سي" بثّ إذاعتها باللغة العربية، منهية بذلك فترة طويلة من التواصل مع الجمهور الناطق بهذه اللغة، امتدت لأكثر من نصف قرن. كان للخبر وقع سيئ على "الأوفياء" لبثّ هذه الإذاعة التي تميّزت بسقف مرتفع للأصول المهنية، ولو أنه كان يعاني من هبوط مفاجئ حين يتعلّق الأمر بمصالح بريطانيا.
وإلى الأخبار الإذاعية السيئة، أضيف منذ أسابيع الخبر الثالث عن وفاة "أبلة فضيلة"، المذيعة التاريخية في الإذاعة المصرية، التي قصّت على الأطفال لخمسين عاماً قصصاً رائعة بصوتها الجميل، مذكرة بتاريخ لا يُنسى لهذه الإذاعة الغنية بغنى أرشيفها، وأسماء نجومها الذين أغنوا أسماعنا بما لذّ وطاب من الحكايات التي يمهر في قصّها المصريون وكأنهم شعب من الحكائين.
تراجع أداء الإذاعات الحكومية كثيراً بسبب منافسة البثّ الخاص، واحتضار ما يسمّى بالدولة الراعية
وإن كان جنريك "هنا لندن" يعني للمستمع نشرة الأخبار، كان جنريك "هنا القاهرة" مرتبطاً ببثّ الدراما وجديد الأغاني المصرية. أما في لبنان، فقد كان جنريك "هنا إذاعة لبنان" يعني أنّ فيروز أو صباح أو نصري شمس الدين، سيشنفون آذاننا بعد قليل بجديد أغانيهم، أو أنّ وقت المسلسلات الإذاعية مثل "حكمت المحكمة" قد حان. ولا زلت أذكر كيف أنّ والديَّ كانا يستمعان بشغف لبرنامج صباحي أظنّ أنّ اسمه "أم بسام وأبو بسام"، وهما زوجان كان يتحاوران يومياً حول فنجان قهوة عن هموم المواطن أيامها، ما أحوجنا اليوم إلى مثيل له.
كانت الإذاعة اللبنانية خلال الحرب الأهلية (1989-1975) الوسيلة التي أثبتت نفسها كضرورة، في ظلّ ظروف صعبة كانقطاع الكهرباء. فبطاريتان لا أكثر تكفيان لإعادة وصلك بالعالم وأخباره: لا موّلد ولا اشتراك ولا طاقة شمسية. مجرد بطاريتين وإبرة راديو ترانزستور.
لا أعرف اليوم نسبة الأشخاص الذين يواصلون الاستماع للإذاعات، لكني أعتقد أن تراجع الاستماع إلى الراديو يجعلنا نخسر وسيلة تواصل رخيصة وديمقراطية، كما أحبّ أن أصف البث الإذاعي. فعلى عكس التلفزيون، بإمكانك الاستماع إلى البثّ وأنت تقوم بما شئت من المهام اليدوية. هكذا يفعل سائقو السيارات، وهكذا يفعل الفلاحون في القرى أثناء العمل في الحقول، وهكذا تفعل ربات البيوت أثناء قيامهن بأشغال المنزل، وهكذا كنت أفعل.
ما زلت أذكر ذلك اليوم الذي قصدت فيه الإذاعة المصرية للقاء "أبلة فضيلة" من أجل مقابلة. كان اللقاء، بل مكانه، أي مبنى ماسبيرو في القاهرة، فرصة لأكتشف معنى أن تكون الإذاعة ملكاً للدولة: التقيت على الأدراج وفي المكاتب والاستوديوهات نجوماً، كانوا منصرفين أو متوّجهين إلى دوامهم كمجرّد موظفين: هدى سلطان، محسنة توفيق (وهي شقيقة أبلة فضيلة)، شويكار، عمار الشريعي، نجلاء فتحي، سيد مكاوي، محمود عبد العزيز، عمر الحريري... الخ.
لا تزال الإذاعة، الوسيلة الأرخص لمتابع يزداد فقره في عالمنا اليوم
حافظت الإذاعات الحكومية لمدة طويلة على جودة الإنتاج الفني، لا بل إنها كانت السبب في بروز فنانين، لولاها لما حازوا على فرصة لتطوير عالمنا الفني، كما حال الأخوين رحباني وفيروز. فالدولة هي التي كانت تموّل هذا الإنتاج، وتراقب جودته واختيار الموهوبين وفقاً لمعايير مرتفعة صانت آذاننا لفترة طويلة. هناك فنون لم يكن ممكناً لها أن تتطور وأن تبقى لولا تمويل الدولة، كفن الأوبرا مثلا، الذي لا يزال مدعوماً من الدول التي تتذوّقه، وكالمسرح الذي يحتضر في البلدان التي لا تدعم وزارة الثقافة فيها هذا الفن.
تراجع أداء الإذاعات الحكومية كثيراً بسبب منافسة البثّ الخاص، واحتضار ما يسمّى بالدولة الراعية. وبالتالي، توّجه التمويل الخاص إلى القنوات الخاصة المربحة بسبب الإعلانات، كما تحوّل الكثيرون إلى الشاشات الممتعة بصراً وسمعاً.
ومع ذلك، لا تزال الإذاعة الوسيلة الأرخص لمتابع يزداد فقره في عالمنا اليوم. ما زالت بعض تلك الإذاعات، كالإذاعة المصرية، مطلوبة الحضور. وهي تنتج، لأن جمهورها لا يزال موجوداً.
وإن كان جمهور الإذاعتين السورية واللبنانية لا يزال بعضه هو الآخر موجوداً، إلا أنّ إنتاج هاتين الإذاعتين العريقتين توّقف تقريباً لأسباب الحرب والانهيار الاقتصادي تباعاً.
وفي مصر، حيث لا تزال مفردة "راديو" تشير إلى الإذاعة الرسمية تحديداً، تتابع "ماسبيرو"، مقرّ هذه الإذاعة، سنة بعد سنة وفي موسم رمضان، إنتاج الجديد من المسلسلات.
التكنولوجيا الجديدة تعترف هي الأخرى بالراديو، لكنها، كما فعلت بكثير من المنتجات القديمة، أعادت إنتاجه، ولكن بشكل ألغى ميزاته الطبقية
هكذا، تتنافس اليوم الأعمال الإذاعية بقوة بين راديو الدولة والإذاعات الخاصة هناك على هذا الجمهور الفريد. ويؤكد متابعون أنّ موسم رمضان الإذاعي الحالي هو الأقوى منذ سنوات، بسبب اتجاه نجوم كبار إلى الراديو.
يحيى الفخراني مثلاً عوّض عن وجوده المتلفز لهذا الموسم بمسلسل "حكايات شهرزاد" الإذاعي. ونيللي كريم غزيرة الإنتاج تشارك بمسلسل "اعترافات خوخة"، كذلك النجمان أحمد حلمي وأكرم حسني اللذان اعتادا تقديم أعمال إذاعية خلال السنوات الأخيرة، ويخوضان منافسة كبيرة بأعمالهما الكوميدية هذا العام، وغيرهم.
يوم اختراع السينما تحدث الكثيرون عن نهاية الراديو. وعندما ظهر التلفزيون وانتشر، تحدث الكثيرون عن نهاية السينما والراديو. لا أعرف لم علينا الاختيار بين هذه الوسائل التي أراها متكاملة حسب الحاجة والقدرة، خاصة أنه لا يزال لكلّ منها جمهورها.
التكنولوجيا الجديدة تعترف هي الأخرى بالراديو، لكنها، كما فعلت بكثير من المنتجات القديمة، أعادت إنتاجه، ولكن بشكل ألغى ميزاته الطبقية، محوّلة إياه من وسيلة رخيصة لا تكلّف أكثر من بطاريتين وترانزستور، إلى "أبليكيشن"، أي تطبيق مكلف الاستخدام، كونه بحاجة أولاً لحاسوب أو هاتف محمول متطوّر، وثانياً للإنترنت المدفوع غالباً، وثالثاً لشخص يقرأ ويكتب ويفهم التكنولوجيا ليستطيع التحكّم به، وليس هذا حال بعض فئات مستمعي الراديو، كالمسنين أو قاطني الأطراف البعيدة عن شبكات الإنترنت، أو بعض المناطق التي ما زالت نسبة الأميّة مرتفعة فيها.
عالمنا المتفاوت بالإمكانات، حتى عالمنا غير العادل هذا، لا يزال يتيح الثقافة والفن والانخراط في الشؤون العامة لكلّ جماهير هذه الخيارات التقنية المختلفة. فلم إهمال الراديو؟