أعاجيب الرجال الشرهين للطعام
سيرة الظرفاء (2)
(لماذا يَنَكِّتُ الناس، أو يؤلفون القصص عن الطعام؟).
سألني أبو سعيد هذا السؤال، وكأنه يريد استئناف حديثنا السابق عن حكاية الفاصولية والبامية.
- الجواب، عندي، أن الطعام جزء لا يتجزأ من حياة هؤلاء الناس اليومية، ومن الطبيعي أن يدخلوه في قصصهم، وطرائفهم. في رواية "مائة عام من العزلة"، يروي غابريال غارسيا ماركيز حكايات عن أناس يأكلون بشراهة، ويتبارزون في التهام الأطعمة. الأمر نفسه شائع في مدينة إدلب، فهناك قصص كثيرة عن رجل يأكل صينية شعيبيات، مثلاً. ولكيلا يلتبس الأمر عليك، عزيزي القارئ، أقول إن الصينية تتسع لخمسة عشرين قرصاً من الشعيبيات، والقرص عبارة عن رقائق من العجين، معجونة مع السمن الحيواني، ومحشوة بالقشطة، ومغطسة بالقَطر، (أي السكر المغلي إلى درجة التعقيد).. ولعلمك أن قرصاً واحداً من الشعيبيات يكفي للإنسان العادي، أو الطبيعي، وأهل إدلب ينصحون ضيوفهم بأن يؤجلوا تناول الشعيبيات إلى ما بعد الغداء، فلو أكلتَه قبل الطعام، فإنه يصد نفسك، ولا تستطيع أن تتغدى بعد ذلك بشكل جيد. المهم في هذه الأمثلة، القول إن الرجال الشرهين يأكلون كميات لا يمكن تخيلها من الأطعمة.
- هل تعلم، يا أبو مرداس، أن الإنسان الشره يسخر من الإنسان العادي لأنه لا يأكل الكثير؟
- أوه طبعاً، وأنت لا تعدم رجلاً يقول عن رجل آخر: فلان نازيك، أو سمبتيك، ويأكل الشعيبية بالشوكة! وكان عمي أبو محمود يسخر من أبنائه، فيقول: تصور، كل اثنين منهما يتشاركان على قرص شعيبيات واحد!
- بصراحة؟ الشعيبيات أكلة لذيذة، وأنا، إذا كنت جائعاً، ووفقني الله بشعيبيات صناعتُها جيدة، آكل قرصين دفعة واحدة.
- ممكن طبعاً. ولكن المشكلة، يا أبو سعيد، أن الشعيبيات لها محذوران صحيان، أولهما الدسم الزائد، وثانيهما الحلاوة الزائدة، يعني أن الإفراط في تناولها يؤذي الأشخاص الذين يعانون من ارتفاع الشحوم الثلاثية والكولسترول في الدم، ويؤذي المصابين بداء السكري. هل تعرف "أبو عبدو الفنكور"؟
- طبعاً أعرفه. توفي قبل ثلاث سنوات، وأنا حضرت جنازته، رحمه الله.
- قصته مع الشعيبيات تستحق أن تروى بالفعل.
- هاتها.
- يا سيدي؛ أصيب أبو عبدو الفنكور بالسكري وهو في الثلاثين من عمره، والأطباء حذروه من تناول الحلوى، وكان هذا التحذير، بالنسبة إليه، مضحكاً، فهو لم يكن يحب الحلوى مثل بقية البشر، بل كان يعشقها، ويتمطق أثناء تناولها، وأحياناً، إذا لم يعثر على بضع قطع من الكنافة "أم النارين"، أو قرصين من الشعيبيات، أو صحن هيطلية، يُمَشِّي أموره ببضع حبات من الكرميلا، أو الشوكولاته، أو التمر، وإذا اشتهى الحلوى في الليل، ولم يعثر على شيء حلو، كان يأكل تيناً يابساً وزبيباً مجففاً. المهم أن جسمه، وهو سن الشباب، كان يخفف من كارثية داء السكري عليه، ولكنه، بعدما تجاوز الخمسين، صار يضطر للفرملة، ويراجع الأطباء المختصين، والأطباء، كالعادة، يصرون على (الحِمْية)، ويعتبرونها البند رقم (1) ضمن سلسلة الإجراءات التي ينبغي على المريض بالسكري اتباعها، لأن الضعف في غدة البنكرياس يؤدي إلى طرح كمية قليلة من (الإنسولين) الذي يحرق السكر، فإذا أدخلت كميات كبيرة من الحلويات إلى معدتك، تصبح عبئاً على الجسم. والطريف في الأمر أن الفنكور عرض نفسه على معظم أطباء إدلب، وكان يتوسل إليهم بأن يسمحوا له بكمية محدودة من الحلوى يومياً، فلا يلقى استجابة، إلى أن استقر عند الدكتور "سلام"، وهو صديقه الشخصي، ولذلك أعطاه، بعد توسلات مؤثرة، بصيصاً من أمل، إذ قال له: كل المرضى الذين يراجعونني يصغون إلى تعليماتي، وينفذونها بحذافيرها، إلا أنت.. لذلك أرى أن أحسن حل، لحالتك الغريبة، أن تأكل حلويات على ضوء التحليل المخبري.
سأله: كيف؟
قال: تحلل الدم، مرة كل شهر، على أبعد تقدير، فإذا كان نسبة السكري عندك منخفضة، أسمح لك بتناول نصف قرص شعيبيات، أو ربما بقرص كامل، وإذا كان مرتفعاً يجب عليك أن (تتبلم).
وفي أول تحليل استغرب "د. سلام" أن يكون السكري عند الفنكور 400 ملليغرام، ومع ذلك لم يدخل في حالة سبات. لذلك بدأ يصرخ به قائلاً: والله العظيم عيب عليك، يا رجل هذا انتحار، سكرك 400 وبعدك راكض من دكان حلواني إلى دكان هيطلاني؟ انظر إليَّ جيداً، واسمع ما سأقوله لك: إما أن تلتزم بتعليماتي أو تنصرف إلى عيادة غيري.
قال الفنكور: طول بالك حكيم. خلص، والله ألتزم.
- عظيم، معناها تمضي شهراً، لا تأكل فيه شيئاً سوى الخضروات المسلوقة، وصدر الدجاج المسلوق، وأما النشويات والسكريات فلا تذوقها بتاتاً. موافق؟
- موافق.
وما حصل، يا أبو سعيد، أن الفنكور أمضى شهراً كاملاً وهو يأكل، على مضض، من الأطعمة التي كان يمقتها، كالخضروات، وصدر الفروج المسلوق، وفي الموعد المحدد، ذهب إلى مخبر حكمت الحكيم، وقص عليه حكايته، وكيف أنه التزم بتعليمات الدكتور سلام، بشكل صارم، وهو الآن يتوقع أن تكون النتيجة هبوطاً في السكر يقتضي منه أن يأكل قرصين من الشعيبيات لكي يستعيد توازنه. وكان الدكتور حكمت، كعادته، متعاوناً، فأعطاه موعداً لاستلام النتيجة بعد ساعة واحدة من هذه الدقيقة.
الخلاصة: أمضى الفنكور ساعة وهو يعد الثواني والدقائق، ومن باب الاحتياط، اشترى قرصين من الشعيبيات، من دكان أبو الناج عاشور، ووضعهما في كيس، ودحشهما في جيبه، ومشى إلى العيادة وهو يتخيل كيف سيقول له الدكتور حكمت (سكرك منخفض. كل أي نوع من الحلوى لكي يرجع إلى الحد الطبيعي)، ووقتها يفتح الكيس ويخرج القرصين ويلتهمهما باطمئنان.. وكانت المفاجأة أن الدكتور حكمت أخبره بأنه سيعيد التحليل!
سأله: ليش؟
قال: أنت أخبرتني بأنك طبقتَ نظام حمية صارماً، خلال شهر، والتحليل أعطانا نتيجة أن السكر في الدم عندك 375. فإذا صح كلامك، يعني أن هناك خطأ في التحليل نفسه!
لك أن تتخيل، يا أبو سعيد، كيف أصبح وجه الفنكور وهو يسمع هذا الكلام الذي يسم البدن، وكيف أخرج الكيس الذي يحتوي على الشعيبيات ووضعه في سلة المهملات وهو يبربر ويندب حظه البائس!