ألقى نفسه من السطح محبة بحافظ الأسد
أساطير بعثية (4)
هنأتُ صديقي أبو سعيد، خلال اتصاله بي البارحة، بنجاته من القصف الأخير الذي تعرضت له مدينة إدلب، فقد علمتُ أن قذيفة مدفعية أصابت الزاوية العليا من منزله. قال:
- حط في الخرج يا أبو مرداس، نحن اعتدنا، خلال السنوات الأخيرة، على كل أنواع القذائف السورية، والروسية. أصبحنا نميز، حينما يصلنا صوت إطلاق نار بالمسدسات والكلاشنكوفات، بين قواس في عرس، وأصوات الاشتباكات بين الفصائل المسلحة المحلية. المهم، خلنا نكمل حديثنا الذي بدأناه عن أولئك الانتهازيين البعثيين الذين أطلقنا عليهم لقب: جماعة أبو النوري.
- طيب. أنا أعتقد أن إطلاق صفة "انتهازيين" على تلك الجماعة صحيح، ولكنه غير دقيق، وغير كاف. فقد أصبحت حياتهم، بعدما وضعوا خطة للصعود من خلال حزب البعث، عامرة بالمرح، والفكاهة، وهي تتألف من حياتين: الأولى؛ داخلية، يعترف فيها الأصدقاء لبعضهم البعض، عندما يختلون بأنفسهم، بصراحة، ودون لف ودوران، بأنهم انتهازيون، وصوليون، مزايدون، والثانية، خارجية، تتلخص في كيفية ظهورهم أمام الآخرين، بمعنى أن يقوموا بإعداد الأقوال والتصرفات العامرة بالكذب والنفاق لأجل تصديرها إلى الخارج، ثم تبدأ مرحلة التنفيذ.
- بالفعل يا أبو مرداس، حزب البعث، الذي أنتج هذه الجماعة، أبو العجائب.
- كل النظم المستبدة تفرز حالات غريبة، وشاذة، وأنا أقول إن هؤلاء أناس متعلمون، بشهادات عليا، والمأمول منهم أن يكونوا غير ذلك، ولكنه، كما قلتَ، زمن العجائب. المهم، يا سيدي.. يتلخص القسم الداخلي من حياتهم، في اقتناعهم بأن نظام البعث سيء للغاية، عندما يريد أن يعين مسؤولاً في الدولة، لا ينظر إلى ثقافته، وكفاءته الشخصية، وتحصيله العلمي، ويحصر اهتمامه بالولاء لضابط في الجيش اسمه حافظ الأسد، أعلى درجة علمية حصل عليها هي الثانوية العامة، الفرع الأدبي، وكل مزاياه أنه قام بانقلاب عسكري ناجح، أدى إلى استلامه السلطة في هذا القطر العربي الصامد، المعطاء. واستناداً إلى هذا الوضع المختل، ستتحول حياة الناس إلى سلسلة من التصرفات المزيفة، إذ يضطر البعثي لأن ينافق لعضو الشعبة، وعضو الفرع، وأمين الفرع، وعضو القيادة القطرية، ويرائي عناصر المخابرات، وكل مَن له علاقة بالسلطة.
تدخل أبو سعيد، قائلاً: ذكرتَ لي، يا أبو مرداس، أن حياة جماعة أبو النوري أصبحت مرحة، فكاهية. كيف؟
- أجل، فقد أصبحوا، بعد إبرام الاتفاق السري بينهم، يخصصون أوقات فراغهم للنفاق الذي لا يخلو من طرافة. فعندما يسهرون في منزل أحدهم، يضعون خطة لتنفيذ مجموعة من الزيارات في اليوم التالي، لأمناء الشعب الحزبية، وأعضاء الفرع، والمحافظ، وأعضاء المكتب التنفيذي للمحافظة، وضباط المخابرات.. ومما كانوا يتفقون عليه، أن يكيل كل أربعة منهم المديح للخامس، أمام الشخص الذي يزورونه، فعندما يكونون في مكتب أمين فرع الحزب، أو أحد أعضاء الفرع، يتحدث أربعة منهم، عن زميلهم الخامس أبو عبدو، مثلاً، يقول الأول إن زوجة أبو عبدو حامل، وبالأمس نام على وضوء، وطلع له في المنام رجل يرتدي أبيض في أبيض، وقال له: زوجتك ستلد ولداً جميلاً، وستسميه حافظ! ويتابع الثاني كلام الأول، ويقول إن أبو عبدو ألغى من حياته الأعياد كافة، وصار يعيّد، ويتلقى التهاني بمناسبة الحركة التصحيحية، 16 نوفمبر/ تشرين الثاني، والثامن من مارس/ آذار، والسابع من إبريل/نيسان.. أما الثالث فيخبرهم أن أبو عبدو كان ماشياً في حي البيطرة، فرأى صورة للسيد الرئيس معلقة في مكان مرتفع، وبلا شعور تعلّقت عيناه بها، وإذا به يصطدم بعمود الكهرباء أمام دكان الكومجي "أحمد كرّوم"، فنبقت له في جبينه نبّيرة، اضطرته للغياب عن العمل لمدة أسبوعين، وخلال ذينك الأسبوعين لم يجلس مكتوف الأيدي، بل قرأ خطابات السيد الرئيس كلها، ولخصها، وفهرسها، وعندما زال الانتفاخ من جبينه، وعاد إلى العمل، صار يثقف زملاءه غير البعثيين، بفكر قائدنا العظيم، وعلى يده المباركة انتسب للحزب أكثر من ستة أعضاء، بينهم واحد كان رجعياً متزمتاً، فأصبح من أكثر التقدميين حماساً.. ويقول رابع إن أبو عبدو لم يدع مسيرة تأييد للقائد المفدى تفلت منه، والمشاركة في المسيرات، عند أبو العبد، لا يجوز أن تكون على مبدأ "هات يدك والحقني"، بل إنه يبدأ بالدبكة منذ لحظة انخراطه بين الجماهير، ويستمر بالدبكة حتى تصل الجموع إلى مكان الكاميرا، فيقف، ويستوقف الآخرين، ويمسك في رأس الدبكة.
وهكذا، في كل زيارة يمتدحون واحداً منهم، وعندما يجتمعون في السهرة، ويطمئنون إلى أنه لا يوجد أحد يسمعهم، ينفلتون بالضحك، ويقول كل واحد منهم للآخرين: يا ساتر. ما أتفهنا، وما أرخصنا!
- بصراحة يا أبو مرداس. هم، من هذه الناحية، شجعان، بدليل اعترافهم بأنهم تافهون.
- الأحلى من هذا كله، يا أبو سعيد، تلك التجربة التي تدربوا عليها في إحدى سهراتهم، وقرروا أن ينفذوها في إحدى زياراتهم.. إذ قال أبو مسطو:
- أنا، البارحة، كنت أفكر في أمر السيد الرئيس حافظ الأسد.
التفتوا نحوه مندهشين، وسألوه: ما به السيد الرئيس؟
- لا شيء، ولكننا، نحن المواطنين السوريين، سواء أكنا بعثيين أو غير بعثيين، مقصرون بحقه. الرجل، يا شباب، يحمل عشر بطيخات بيد واحدة؛ يشتغل في البناء، والتشييد، ويرعى العلم والمتعلمين، ويفتتح المعاهد الدينية لكي يبقى الناس ملتزمين بدينهم الحنيف، ويخطط لتحرير الجولان، وفلسطين، وجنوب لبنان، ويقارع الاستعمار والصهيونية، والرجعية العربية، ويتصدى للمؤامرات التي تحاك على قطرنا الصامد.. كل هذا وهو وحده، أفرأيتم قلة ناموس مثل هذه التي نمارسها نحن؟
سألوه: وماذا نفعل برأيك؟
قال: أنا فكرت بأن أصعد إلى سطح دارنا، وألقي بنفسي إلى الزقاق، حباً بالسيد الرئيس، ودعماً له في كل ما يفعله من أجل شعبنا الصامد!
نظر إليه أبو عبدو بازدراء، وقال له:
- هل تسمي هذه تضحية يا أبو مسطو؟ والله لا يوجد صوص ابن يوم في المدينة إلا ويعرف أن دارك تتألف من طابق واحد، وارتفاع السقف لا يزيد عن أربعة أمتار، فإذا سقطتَ قد تصاب بصدوع، أو كسور طفيفة، وتكون تضحيتك من أجل السيد الرئيس تافهة! وعلى كل حال أنا أعجبتني فكرتك، وسوف أنفذها، ولكن ليس من سطح داري، بل من فوق أعلى بناء في المدينة!