أم كلثوم وولدها الوحيد
انتهت سهرة الإمتاع والمؤانسة الإسطنبولية العائلية في منزل أبو ماهر بلا مشاكل، والأمر الذي كان أبو الجود متحسباً منه، وهو أن يتشاجر مع أم الجود، لم يقع. في مستهل السهرة التالية التي عُقدت في منزل "أبو زاهر" جرت مراجعة لوقائع السهرة السابقة، وقال أبو الجود:
- أنا من يوم جينا عَ إسطنبول حتى الآن عايش على حسابكم، وكنت في البداية إخجل من حالي، وأقول إنه عيب عليّ، كل الشباب بيعزموني وبيطعموني وبيشربوني شاي، وأوقات بيجيبوا لي علب سجائر، وبيقولوا لي هاي هدية، وأنا ما بعزم حدا، ولا بطعمي حدا، ولا مرة عملت سهرة في بيتي، وآخر شي طلبتوه مني إني أجيب معي أم الجود، حتى تساووا السهرة عائلية، يعني ما بيكفي العبء تبعي، أضفتوا عليه عبء زوجتي. بعدين أنا تذكرت متل شعبي معروف عندنا في البلد، بيقول (اللي بيعمل شغلة بإيدُه، الله يزيده).. تفضلوا سيدي، هاي أنا وهاي زوجتي، طعمونا واسقونا ووصلونا بسياراتكم ع البيت، أنا أيش فارقة معي؟
قال كمال: خلص أخي، خلص، خلينا نعتبر هادا الموضوع منتهي. ويا ريت نستأنف أحاديثنا من المكان اللي توقفت فيه.
قالت أم ماهر: أنا عندي رغبة أعرف كيف تصرف أبو نادر لما اكتمل المقلب، وصار وجهاً لوجه مع الرجل الخشن، أو الخشايني اللي ملقبينه "أبو براطيم".
قلت: خلينا بالأول نلخص القسم الأول من الحكاية. أصدقاء "أبو نادر" عملوا فيه مقلب مرتب بعناية، حطوه في جو موسيقا وغناء وثقافة فنية وحكوا عن مهارة أم كلثوم في التطريب، والتفريد، والسلطنة، والعودة بعدها إلى النغم الأصلي بسلاسة، وجابوا المسجلة، وحطوا كاسيت أغنية "الأولة في الغرام"، وفي حين كان أبو نادر مسلطن وعمّ يهز راسه مع نغمة (لا قلت لي فين مكانك ولا ح ترجع لي إيمتى) دخل "أبو براطيم" المكان بنوع من الاحتفالية، ورفع إيده لفوق وصار يقول: السلام عليكوووون، وقعد على المَدّة الأرضية وقال اطفوا لنا هالبَلَّاطة (يقصد المسجلة) خلينا نحكي كلمتين بحق هالدنيا.. وضحك ضحكة بلهاء وقال:
- أنا ما بحب البَرْكة ع الكراسي، الواحد بيحس حاله متل المخوزَق، ع الأرض أريح، الواحد بيتفرفد وإذا تضايق بيمد رجليه..
عندما وصلت في حديثي إلى هذه النقطة، ضحك الحاضرون بسبب هذا التناقض الذي بدا جلياً بين شخصيتين تقعان على طرفي النقيض، وقال أبو محمد:
- حلو كتير. وأيش كان رد أبو نادر؟
قلت: برأيي إنه ما في أحلى من طريقة أبو نادر في التهكم والأنكلة، واللي صار إنه انتظر لحتى انتهى أبو براطيم من كلامه، وقال لصاحب البيت:
- نعم. لازم تطفي المسجلة. أنا من زمان جاية على بالي أقول لك "اطفيها" ومخجول منك، يا رجل، لسه في حدا بهالعصر بيسمع أم كلتوم؟
قال أبو براطيم وهي يضحك بطريقة البربقة: هلق هاي أم كلتوم؟ علي الطلاق أنا مفكرها وردة الجزائرية!
قال أبو نادر: لسه هاي أم كلتوم أبشع من وردة الجزائرية.. أنا بدي أقلك شغلة يا أخ أبو..
قال أبو براطيم: محسوبك أبو حمدي، والشباب بيمزحوا معي وبيقولوا لي "أبو ابراطيم"..
قال أبو نادر: أحلى. اسم أبو براطيم أحلى من هداكا الإسم. إنته يا أبو براطيم لو كنت جاية على بكير كان فَزّ عصبك وضاقت أخلاقك من هاي أم كلتوم، بتجي الفرقة الموسيقية بتعزف لها شوي، وهي بتبلش تقول (سكوت وصوت وايه حَ يفوت؟) وبتعيدها، وبتعيدها.. بصراحة يا شباب نحن العرب، والسوريين، وأهل إدلب بشكل خاص، عندنا ولع بهدر الزمن، وتضييع الوقت، تصوروا إنه يكون معنا إنسان فهيم ومليء ومتمكن متل أخونا أبو براطيم، ومنقعد نسمع من هالعلاك تبع أم كلتوم وقال أشو؟ (حطيت على القلب إيدي وأنا بودع وحيدي)..
مد أبو براطيم يده وقال لأبو نادر: وقف عندك. مين هادا اللي عم يودع ابنُه الوحيد؟ ليش إنتوا ما بتعرفوا إنه الولد الوحيد لأبوه أو لأمه ما بياخدوه ع العسكرية؟
العبارة الأخيرة اللي قالها أبو براطيم فتحت لأبو نادر باب واسع للتهكم، وقال:
- هاي هيي الفكرة المظبوطة، الأخ أبو براطيم لقطها وهيي طايرة، قصدي فكرة الظلم. يا عالم، يا ناس، يا هو، مجنون يحكي وعاقل يسمع: مَرَا عندها ولد وحيد، ومربيته كل شبر بندر، بتجي شعبة التجنيد بتطلبه ع الخدمة العسكرية، وبينحرق قلب أمه، ويتصير تقول يا عين أسعفيني وبالدمع جودي. وهادا يا إخوان كله كوم وقعود الأخ ع الأرض كوم، هاي إسمها حرية شخصية، الواحد بيمد رجليه، بيرتكي، أحسن من القعدة عالكرسي..
قال أبو براطيم: أنا كتير عجبني حديثك يا عمي أبو نادر. شوف عمي، بدي إحكي لك شغلة.. أنا بهالعمر تجوزت ست مرات، بس ما جمعتهن مع بعضهن، كانت المرا تعيش معي فترة وتتطلق، لما بتقلي الوحدة بدي إتطلق كنت قلها: بالجهنم اللي بتحرق أرض راسك، تطلقي. وهلق مو صفيان عندي غير تلات نسوان، وحدة منهن اللهم عافينا مريضة، ويمكن تموت من هون لشهرين..
قال أبو نادر: بتعرف يا أبو براطيم مين أغبى امرأة في العالم؟
قال أبو براطيم: مين؟
قال أبو نادر: اللي بتتطلّق منك. اصلاً هيي لازم تفرح وتفتخر إنها متجوزة إنسان فهيم وضليع ومليء ومتمكن متلك..
قال أبو براطيم: ما علينا. أنا كنت بدي قلك إنه علي الطلاق من نسواني التلاتة أنا حبيتك، وحبيت السهرة معك..
قال أبو نادر: إنته يا أبو براطيم حبيتني مع إنك لسه ما بتعرفني منيح. أنا هلق مو بس حبيتك، حبيتك وصرت متعلق فيك.. اسمعوا يا شباب، يا أبو نعيم، يا أبو فؤاد، يا أبو قاسم، ترى إذا من هلق وطالع بتدعوني على سهرة وما بيكون أبو براطيم موجود فيها لا تتأملوا أبداً إني إجي أو إحضر.. أخ أخ اخ..
ومسك أبو نادر ركبته بإيده وقال: دخيل الله يا شباب. ركبتي.
طبعاً الحاضرين بيعرفوا هاي الحركة منيح.. أبو نادر بمجرد ما يقرر الانصراف لما بيكون في زبون خشايني بيتظاهر بألم مفاجئ في الركبة أو في الرقبة أو في الأذن.. والشباب فوراً بيطالعوه من المكان وبيوصلوه ع البيت.