أين ذهبت دحديرة يحيى حقي؟
في 24 يناير 1999 قمت في صحيفة (الجيل) حديثة الصدور بالإشراف على عدد خاص بعنوان (أحلى ما فيكي يا مصر)، عن أحلى السنين والأفلام والأغاني واللحظات والمباريات والشوارع والأكلات والكتب والأيام والشهور وحتى الإعلانات في تاريخ مصر، واخترنا له شعار (لسّه مصر ممكنة)، وحرصت على أن يشاركنا في العدد الكاتب الكبير خيري شلبي والذي كانت تربطني به علاقة وثيقة بدأت حين تعرفت عليه بوصفه والد زميلي في كلية الإعلام الشاعر زين العابدين خيري، وكان أول ما قرأت من أعمال العم خيري روايته البديعة (الوتد) التي لا زلت أحتفظ بإهدائه عليها، ثم لم أفوت له حرفاً بعد ذلك، وأذكر أنني نشرت له في صحيفة (الجيل) عدداً من المقالات والقصص البديعة التي لم أجدها في كتبه بعد ذلك، وأتمنى ألا يطويها النسيان، خصوصاً هذا المقال البديع الذي ستقرأه الآن والذي طلبنا منه بوصفه واحداً من المشّائين العظام والحكائين الأعظم أن يحكي لنا عن تجربة جديدة من تجارب المشي في أحلى شوارع القاهرة، غير التي حكاها في كتبه البديعة ومقالاته الغزيرة، فاختار أن يكتب مقالاً بعنوان (البحث عن دحديرة يحيى حقي: أنا ويحيى حقي في أحلى شوارع القاهرة)، وهذا هو نص المقال النادر:
"ما أحلاها تلك الأيام.
"تلك" هذه ليست موغلة في القدم، إنها ليست تبعد عنا أكثر من ثلاثين عاما. أيامها كان الواحد منا يمشي في شوارع القاهرة كأنه يمشي داخل منزله، حيث للصعلكة نكهة لذيذة بل ومردود معرفي. للنشوان أن يمشي في نهر الشارع متبخترا يتطوح على كيفه، وعلى أية سيارة قادمة من خلفه أو من أمامه أن تتركه في حاله وتتجنبه آخذة طريقها دن تزمير أو إزعاج. للواحد منا أن يمشي الليل كله على قدميه. يشوط بقدمه قطعة زلط، ثم يلاحقها ليشوطها من جديد وهكذا إلى ما لا نهاية. منتهى الروقان والشعور بأن البلد بلدك لا شريك لك فيها، سوى طائفة من الإخوة وأبناء العم وحتى الضيوف يسبغ عليهم الروقان طابع الأخوة.
تلك حقيقة قد لا ينتبه إليها الذين ولدوا ونشأوا في الزحام. كلما خف الزحام وراقت الحركة في الشوارع تعمق الحب وازدادت الروابط بين الناس، وظهرت الشيم والقيم السلوكية العظيمة، يتقارب الناس، يتعاطفون، يتسامعون أخبار بعضهم، أخبار الجيران كاملة في كل بيت، وطبخة الجيران تلحق برائحتها إلى البيوت المتجاورة، وبيت العائلة يتوقع قدوم أبنائه المتزوجين في كل لحظة، فالشوارع تغري بالحركة، والمركبات شبه خالية، والفكرة تطرأ على الأذهان فجأة فيتم تنفيذها في الحال: ما رأيكم لو نزلنا نزور جدتكم؟ تيجوا ندخل سينما؟ ما تيللّا نخرج نشم هوا؟ تاكس، إطلع يا اسطى، شمال، يمين، هنا، مع السلامة، خلي الباقي عشانك. الأب يصعد إلى الأتوبيس فلا يجد مكانا خاليا، لا بأس، اتفضل اقعد يا ابا، تعالي يا ست، أقفل لك الشباك، على إيدك والنبي يا اسطى فيه واحدة ست حتنزل.
هكذا الشعب المصري دائما، رغم ولعه بكثرة العيال فإنه يفقد في الزحام هويته بمنتهى السرعة والبساطة، في الروقان تطفو حضارته العريقة، يصير في منتهى الرقي، يعطف على المحتاج بكل ما في جيبه، لأنه يعرفه ويعرف حقيقة احتياجه، يقوم عن مقعده ليجلس كبار السن، لأنه يعرف فيهم أباه وأمه، يتطوع ليدفع لك سيارتك العطلانة وهو مجهد من المشي والفاقة، يغير لك العجلة الاحتياطي، وإذا رآك مرتبكا موحولا، يعزمك على الشاي بآخر قرش في جيبه وهو يعرف أن جيوبك ملآنة، وقد يحلف بالطلاق إلا ما تركته يدفع، يجلس إليك لأول مرة في حياته، في الأتوبيس في المقهى في عيادة طبية في صالة انتظار، فإذا هو بعد دقائق معدودة قد صار صديقا لك، ربما يحكي لك أدق أسرار حياته. في الزحام هو نقيض ذلك تماما، يتحول إلى وحش أحيانا، حيث يرهقه الشعور بالاغتراب، تنسحق إنسانيته بين الكتل البشرية المتصارعة، يستيقظ فيه الشعور بضرورة الدفاع عن النفس. إن الزحام عدوه اللدود، والبراح صديقه الصدوق.
أستاذنا الراحل يحيى حقي يلتقيني فجأة في الطريق. هو قادم من مجلة (المجلة) في شارع عبد الخالق ثروت وأنا خارج من مبنى الإذاعة في شارع الشريفين. أهلا يا شلبي. مرحبا يا أستاذنا. ينقل عصاه العوجاية القصيرة المشغولة بالصدف إلى يده اليمنى ليتأبط ذراعي بيسراه، ما أعظمها من أبوة، نصفها أبوة خالصة، ونصفها الآخر زمالة صعلكة وشقاوة وأخوة بمعنى الكلمة. أعرف في الحال ما سيحدث. سنُخرِّم من قصر النيل إلى شارع عبد العزيز لندخل شارع محمد علي. الأستاذ يحيى حقي مغرم بحصر عدد عربات الكشري التي تقابلنا في الطريق، وعدد المقاهي، وكم عربة حنطور مرت، وكم من الحفاة شاهدنا، وكم ورشة سمكرة؟!
انظر يا شلبي، هل يخرج من يدنا الآن بناء مثل هذا؟ أشك، هذا هو ميدان القلعة أو ميدان الرميلة، عيال كثر يلعبون الكرة الشراب، الكرة كقذيفة مجنونة تكاد تلطم وجه الأستاذ، أمسك بها، أتحفز للعراك مع العيال
إذن فورش الآلات الموسيقية لا تزال مسيطرة فالحمد لله، ما هذا الروقان يا عم يحيى؟ اسكت يا شلبي، شفت كم طفلا رأينا من صبيان الورش الميكانيكية؟! لو كنت منك يا شلبي لسكنت في هذا الشارع لأكتب رواية عظيمة عن تاريخ مصر الوسيط، هل تعرف يا شلبي إن هذا الشارع كان ذات يوم أهم شارع في مصر؟ اسأل هذه البلاطات تحدثك عن آلاف المهرجانات والمواكب الرسمية التي مرت فوقها قادمة من القلعة أو ذاهبة إليها. آلاف المعارك، آلاف الفصول التاريخية مسطرة فوق هذه البلاطات المتفزرة؟ طبعا أنت تظن أن هذه المياه القذرة المتسربة من بين الشقوق هي مياه المجاري، ربما كانت هكذا ولكن أغلب الظن أنها أحبار المؤرخين اندلقت حزنا واحتجاجا على ندرة المؤرخين العظماء أمثال ابن تغري بردى وابن إياس أصحاب المطولات التاريخية والحوليات الفذة.
رغم طول هذا الشارع لا نحس بالملل، ليس ثمة ما يزعجنا سوى صوت جرس التروماي الذي يجلجل مخترقا الشارع بالطول، أما نداءات الباعة فإنها حفل من الطرب الشعبي، اسمع يا شلبي وتمعن، هذه السلع التي يغني لها الباعة ليست مجرد سلع، إنها عواطف مزمنة تذهب في حرارة الصدور في مجتمع يتحرج من إعلان اسم الحبيب ويكاد يجرّم الغزل المفضوح، كل سلعة من هذه السلع يا شلبي قناع يخفي وراه وجه الحبيب، ولكن أفدني يا شلبي من فضلك، لماذا العنب بالذات هو الذي استأثر بقلوب العشاق فحظي بكل هذه الألوان الغنائية في صورة نداءات تهتز من هولها مشاعر الناس؟
هل لأن عناقيده تأخذ شكل القلب ولا بد تبعا لذلك أنه يحس ويشعر بالغربة كما تصفه أغنية النداء: بلدك بعيدة يا عنب والغربة خطفت لونك؟ يخيل لي يا شلبي أن علاقة المصريين بالعنب تحتاج لعدة رسائل دكتوراة تناقشها من الوجهة الفنية والوجهة الاقتصادية والزراعية، أم أن لديك تفسير مقنع، ما علينا، إن سألتني عن المطرب الذي يشنف أذني بالفعل، أقول لك إنه الصعيدي الذي يستغيث بوابور الساعة اتناشر المقبّل على الصعيد؟ أهذا حق أم تراني أبالغ يا شلبي؟
مبنى القلعة يقترب، انظر يا شلبي، هل يخرج من يدنا الآن بناء مثل هذا؟ أشك، هذا هو ميدان القلعة أو ميدان الرميلة، عيال كثر يلعبون الكرة الشراب، الكرة كقذيفة مجنونة تكاد تلطم وجه الأستاذ، أمسك بها، أتحفز للعراك مع العيال. لا يا شلبي، دعهم يلعبون، إنهم مساكين، حقهم أن نقيم لهم الملاعب، عيب حكوماتنا أنها لا تعرف شيئا عن الشباب، علاقتهم بها علاقة السجّان بالمساجين، أهم ما تفكر فيه كيف تقمعهم وتصادر حقوقهم المشروعة، كيف تقتل شخصياتهم وتحولهم إلى عبيد لا هم لهم سوى الأكل والشرب والتناسل وأخيرا تجيء أنت يا شلبي وتريد أن تحرمهم من الشارع؟!
لو كنت منك لنزلت ألعب معهم بلا حرج.
من يمشي مع يحيى حقي في الشارع لا يسأله إلى أين نذهب، لأن يحيى حقي هو أعظم المشّائين في تاريخنا المعاصر، ليس لأن المشي صحي فحسب، بل لأنه ـ في نظر أستاذنا الجليل ـ ثقافة ومعرفة وتنشيط للذاكرة الوجدانية القومية، ففرق كبير بين أن تسمع أو تقرأ عن القلعة مثلا وأن تراها. إن الرؤية هي الرباط الوجداني الأمثل، هي بصمة الشيء على صفحة الذاكرة، هي جوهر الوطن والوطنية. إذن فهذه المصرية الاستثنائية التي تنبع من أدب يحيى حقي ليست نابعة من فراغ، فهذا الرجل الذي يقطع القاهرة على قدميه طولا وعرضا من السيدة لسيدنا الحسين ومن الإمام الشافعي إلى مصر الجديدة يحتضن مصر في قلبه شبراً شبرا.
بمجرد عبورنا إلى شارع محمد علي أعرف في الحال وجهة أستاذنا، إنه يعشق بقعة بعينها في حي الصليبة، فهذا الحي الذي تتقاطع في ميدانه أربعة شوارع جعلته يأخذ شكل الصليب، يتجمع فيه عبق التاريخ وذكريات عصور حافلة من الأيوبيين إلى المماليك إلى العثمانيين إلى العلويين، ولكن ليس هذا ما يفتن يحيى حقي، إنما تفتنه شجيرة صغيرة على رصيف في مواجهة عطار عتيق، دكانه مصري قديم، بدرفتين خشبيتين يغلقان بواسطة درفيل وقفل حدادي. الشجرة خفيفة الظل حقا وفي أعلى دحديرة كنا نسميها فيما بيينا دحديرة يحيى حقي، من كثرة ما تحدث عنها في كتاباته عن القاهرة القديمة وخاصة في حي القطائع. قُلّة فخارية معلقة بحبل في فرع الشجرة تنضح برغبة دائمة تدعو كل مار لأن يقف ويحتويها بين ذراعيه كطفل رضيع ثم يرفعها إلى شفتيه ليعب منها بصوت مسموع ولذة فائقة، يريد عمنا يحيى أن يتحدث إلى هذه الشجيرة طويلا، وأن يستمع لنجوى هذه القُلّة السخية وضحكاتها النشوانة حيث يملأها العطار بالكوز من زير كبير تحتها.
اقعد يا شلبي، ويشير إلى صخرة السور فيما ينزع ذراعه من تحت إبطي، ويجلس مرتكنا بذقنه على مقبض العصا. أفدني يا شلبي من فضلك، هل هناك أجمل من بلادنا هذه على خريطة الكون؟ أستطيع أنا أن أجيبك لأني جُبت بلدان العالم كله أثناء عملي كدبلوماسي، لا يوجد، نعم لا يوجد مثل هذا الزخم الحميم، لا يوجد هذا الهدوء، هذا البراح، يقولون إن القاهرة مزدحمة صاخبة؟ أين هذا الزحام وأين هذا الصخب؟!
كان ذلك في أواسط الستينات، وكنا نعتبر القاهرة مدينة مغلقة من شدة الزحام، رغم أنك تستطيع أن تعد السيارات المارقة في شوارع وسط المدينة، وكنا نستطيع معرفة كم سيارة مرسيدس في البلاد؟ وحين ندخل مطاعم وسط البلد يحتويك دفء أسري، فالزبائن هم الذين تراهم كل يوم هنا، مطعم الفردار للفول والطعمية له زبائنه، ومطعم اليونانية بجوار سينما أوديون هو الآخر له زبائنه، أما مطعم آخر ساعة وكشري أمين فإنهما يجذبانك للدخول حتى لو كنت شبعاناً.
في الليل عرِّج بنا يا صديقي إلى التوفيقية حيث يقف الناس في الشارع أمام محل سندويتشات عيد يأكلون ويتسامرون في ود كبير، هيا نحبس بالشاي الثقيل على قهوة الخُرس الساهرة حتى الصباح، بعد قليل يأتي أمل دنقل وميخائيل رومان وعبد الرحيم منصور وبليغ حمدي ويحيى الطاهر عبد الله، فالقعدة على رصيف هذه القهوة بعد منتصف الليل متعة لا نظير لها. فجأة تدلق سينما كايرو زبائن آخر حفلة، فتعم الكثافة لبرهة وجيزة، كثافة مبهجة لناس أُنقاء مهذبين تفوح العطور من ياقات معاطفهم ومن وجوههم، لكنهم سرعان ما يتفرقون، تبتلعهم شوارع الألفي و26 يوليو وعبد الخالق ثروت والجمهورية، وسرعان ما يخلو الرصيف ويعم الهدوء لدرجة أن حركة زهر الطاولة تعتبر رعداً، إلا أن صوت أم كلثوم يتسلل قادما من بلكونة بعيدة ساهرة على نور الشارع الهادئ الرصين.
منذ بضعة شهور سافرت إلى دحديرة يحيى حقي بسيارتي فقطعت المسافة من وسط المدينة إليها في ساعتين، مع أنني كنت أقطعها مع يحيى حقي سيرا على الأقدام فيما لا يزيد عن نصف ساعة. لم أجد للشجيرة أثرا، لا ولا دكان العطار، بل إنني تشككت في الدحديرة نفسها، لقد فقدت زخمها التاريخي، فقدت هويتها، أصبحت مجرد مرتفع صخري سمج، بعد لأي وعذاب شديدين وفِّقت في إيجاد مكان أركن فيه، لكنني سرعان ما اختنقت من فرط الزحام والصخب، فقفلت عائدا إلى بيتي وقد داخلني شعور يقيني مقبض بأنني سأجيئ ذات يوم قريب لزيارة هذه المنطقة فلا أجد للقلعة نفسها أثراً.
...
رحم الله يحيى حقي وخيري شلبي، وقد رحمهما حقاً حين اختارهما إلى جواره قبل أن تنزلق القاهرة في دحديرة مقبضة بائسة ظاهرها التطوير وباطنها مسخ كل شيء جميل.