إسرائيل... مشكلة من؟
إنّ حدودَ صراع المواطن العربي مع إسرائيل لا تتجاوز حدودَ الكلمات والألفاظ، مثلما أنّ علاقته بالله والإيمان لا تعدو كونها صورة نمطية تَوارثها عن أسلافه. فالأولى يحاول أن يهزمها بالشعاراتِ والكلمات، والثانية يحاول أن يصالحها بالمديحِ والأذكار. وكما يقول الصادق النيهوم: "الشّعوب التي تفشل في تشخيص أمراضها بشجاعة تموت نتيجة تناول الدواء الخطأ"، فإنّنا لا نملك الشجاعة لنبحث عن إسرائيل ونلاحقها وراء التلال، وفي أحلامنا، وتحت السفن التي ترسو في كلِّ ميناءٍ عربي. إذ يكفينا أن لا ننطقَ اسمها، ونقصّ ألستنا عن ذكرها، فذاك انتصارنا عليها، وهزيمتها الأبديّة، ومن ثمّ لكَ أن تسمح للسانك بالنيل من أيّ شيءٍ يمكن أن يطاوله إلّا أن تتحدّث عن إسرائيل.
إسرائيل مثل سائل نختبره في مخابرِ المعاهد، تجربة فاشلة كانت عرضةً للهواء والرطوبة، والنتيجة سائل لا لون له، ولا طعم، ولا رائحة، وليس له وجود طالما أنّنا امتنعنا عن نطقه. كلّ التجارب الفاشلة التي خصّصنا لها ساعات طويلة من جدولِ الأوقاتِ المدرسيّة كانت فاشلة، وحصص التاريخ لم تُكتب في صفحاتنا كحقيقةٍ يمكن أن نؤسّس عليها وعينا، كما أنّ مقرّرات الفلسفة تفشل في بناءِ العقل الذي يمكنه أن يدرك زيف هذه المعارك.
إنّ مشكلَ الخلط بين المشروعيّة والشرعيّة كانت بمثابة الدواء القاتل الذي قتل المواطن العربي، ودلّس وعيه وانتهى به الأمر إلى هذا الوهم، فالتبستْ عليه الشعارات والألفاظ حتى خُيّل إليه أنّ دراسة الصهيونيّة ضرب من التطبيع والعمالة، وذكر إسرائيل اعتراف بدولة لا وجود لها، وهو لا يعلم أنّ وجودَ إسرائيل أمرٌ أكثر فظاعة من وجودِ أيّة دولةٍ أخرى، وأنّ التغاضي عن ذلك نتيجته الموت والفناء لا محالة.
إنّ المشروعيّة تُقاس بمدى مطابقة الشيء للقيم والمبادئ العامة، والشرعية بمدى تطابقها للقانون الوضعي، وبقدر ما كان القانون مُطابقًا للقيم والمبادئ، قلنا إنّه مشروع، ومتى كان الفعل أو السلوك ملتزمًا ومطابقًا للقانون قلنا بأنّه شرعيّ بغضِّ النظر عن مدى مشروعيته. والآن يمكنك أن تفهم أنّ إسرائيل دولة شرعية، ولكنّها غير مشروعة، شرعيّة لأنّها تخضع لأركان الدولة المُتعارف عليها، وغير مشروعة لأنّها دولة غاصبة، ليس لها أيّ حق إنساني في الوجود. وبقدر ما حاولت التفريق بين هذين المصطلحين، ستُدرك أنّ البحث عن إسرائيل حقيقة، وأنّ وجودها كذلك حقيقة، وأنّ مجرّد الامتناع عن التلفّظ باسمها لا يعني أيّ شيء في ميزان هذه الحقيقة. وستدرك أيضًا أنّ البحث العملي يعترف بإسرائيل حقيقةً علميةً موضوعيةً، ولكنّه يمكن أن يكشفَ حقيقتها غير المشروعة. فهل ذلك ممكن؟
لم تخضع إسرائيل للقواعد الدولية المتعارف عليها فيما يتعلّق بحدودها الجغرافية
إنّ مشكلة الاعتراف بإسرائيل مشكلة تهمّ الإنسان وحده، والعلم لا يراعي مشاعركَ ومواقفكَ لينخرطَ معك في معارك المشروعية وقضايا الاعتراف والتطبيع، ولا يُمكنه التماهي مع خلفيّاتك الدينية والأخلاقية، ولا أن يهتم للدماء التي تسيل، ولا حتى أن يتفهّم مواقف جهلك ليقول لك بأنّه لا يعترف بإسرائيل هو الآخر.
العلم لا يمكن أن يخضع إلّا للموضوعية وحقيقة الأشياء، وليس له إلا أن يقول لك إنّ إسرائيل دولة موجودة في الواقع، طالما أنّ لها إقليمًا وشعبًا ونظامًا سياسيًا، وهي أركان الدولة التي تنصّ عليها القوانين الدوليّة المُتعارف عليها، والخاضعة لها أيّة دولة مُعترف بها في هذا العالم، بما فيها دولتك أنتَ. ولكن العلم أيضًا، يمكنه أن يشرح لك تهافت قرار التقسيم 181 الذي أصدرته الجمعية العامة للأمم المتحدة، والعلم وحده هو الذي يمكنه أن يشرح لك أنّ إقليم هذه الدولة ليس له حدود على خلاف بقيةِ الدول الطبيعية والعادية، وأنّ إسرائيل لم تخضع للقواعد الدوليّة المُتعارف عليها في ما يتعلّق بحدودها الجغرافية، وهي تُبرّر ذلك بأسبابٍ أمنية ودفاعية ما يُضمر نيّاتها في التوسّع والامتداد بقدر قوّة جنودها.
والعلم أيضًا هو الذي يُخبرك أنّ هذا الشعب لا يمكن أن نُطلق عليه مصطلح الشعب، لأنّ جماعاته لا تستوعب حدود هذه الكلمة، وهو الذي يكشف لك عدم تجانس أفراده الوافدة إليه من كلِّ حضاراتِ العالم، ويفشي لك الصراعات المتداخلة والمعقّدة بين عناصر اليهود أنفسهم والتناحر الأزلي بين العلمانيين والمتدينين، بين الإشكنازيم والسفارديم، بين اليهود والفلسطينيين، ما يؤكّد استحالة تجانس هذه الجماعات، وبالتالي تلاشي فكرة شعب إسرائيل.
والعلم أيضًا يستطيع أن يُخبرك أنّ النظام السياسي متناقض في تركيبته، فهو يريد بكلِّ قوّة أن يكون نظامًا ديمقراطيًّا داخل دولة تؤكّد للعالم أنّها دولة يهودية لليهود، والواقع يصدّعها ويخبرها، إمّا أن تكون دولة ديمقراطيّة لجميع مواطنيها، وإمّا أن تكون دولة دينية لليهود وحدهم، أو أن تذهب للجحيم من ثقب إبرة. ورغم كلّ هذا، فإنّها دولة ديمقراطيّة مع اليهود ودولة يهودية مع الأغيار.
العلم وحده سيصدمك، بين خلفياتك واعتقاداتك الموروثة، وبين الحقيقة العلمية والموضوعية، وأنتَ لك أن تختار بين أن تشقّ طريقك نحو العلم والبحث فتُعقلن قناعاتك وتؤسّس لها قاعدة علميّة ومعرفيّة ثابتة، أو أن تجلس أمام دكان جارك العجوز وتنتظر المسيح الدجّال.
الدين لم ينشأ في جراب كنغر حتى يتعلّم الوثب وينتقي خطواتك وأهواءك ويكون على مقاسِ سيْركَ. كان يُريد أن يجعل منك إنسانًا متواضعًا لإنسانيّتك، وتحترم حدودك في هذا الوجود، وإن كُنت ناطقًا، فإنك تبقى مجرّد حيوان تشترك مع غيرك من الكائنات، لذا وجب عليك أن تتواضع وتتناغم في وجودك معها. ثم إنّ الدين عاملك كإنسانٍ حظي بنعمةِ التفكير والعقل، ولم يتجاوز مديحه لك هذا الحدّ. ولم يكن يعنيه شيءٌ من انتمائك العرقي أو الجغرافي، والله ليس موظفًا في إدارة ما حتى ينظر في من وراءك، وليس رجل قبيلة حتى ينظر في نسبك، وليس إنجيليًّا ليهتم لزنجيتك، ولا يعنيه إن كنت من نسل أحد أنبيائه أو من شعبٍ مختار، لأنّها أحلام صبيان، والدين لا يأبه للصبيان وأحلامهم.