إسرائيل ولعب دور الضحية
في صِغري، كنت مشاغبًا لا يمل من افتعال المشاكل مع فتيان حيّه، أضرب هذا وأعتدي على ذاك. وحين يشكوني أحدهم إلى والديَّ، كنت ألجأ إلى حيلةٍ ناجعة جدًّا، كثيرًا ما استطعت بها تجاوز المساءلة والعقاب بأقل الخسائر.
تتمثل الحيلة في أنني كنت أبرح الخصم ضربًا عنيفًا حتى ينهار ويعلن الاستسلام، ثم في نهاية النزال أدعه يوجه لي ضربة أخيرة أستقبلها بكل فرح، وكثيرًا ما أتمناها تكون في وجهي لتترك علامة واضحة فيه. هذه الضربة الوحيدة سأستخدمها فيما بعد أمام القاضي "والديَّ" لأدَّعي مظلوميتي في النزال، من خلال استغلال علامة الضربة في وجهي والكثير من الدموع التي كنت أجبر عينيَّ على ذرفها.
هذه الحيلة الطفولية قد كبرت اليوم وتطورت أبعادها، صارت تكتيكًا عسكريًّا، واستراتيجية فعَّالة تلوذ إليها دول وحضارات في حربها على دول أخرى وارتكابها أبشع الجرائم في الشعوب والمجتمعات، ثم بكل بساطة تقدم نفسها أمام العالم الأعور بأنها ضحية وذات مظلومية. إسرائيل أنموذجًا.
في تعريفها، هي فكرة فصلٍ عنصريٍّ ومشروع توسعي أكثر من كونها دولة، قبل ثمانين عامًا كانت مجموعة من الحُفاة بلا هوية، مشردين هنا وهناك، قيمتهم صفر أينما حلَّوا، كل الجهات تضيق بهم، الجميع حاربهم وحاول التخلص منهم بكل الطرق الممكنة، وحين شقَّ عليهم الأمر، قاموا بجمعهم من شتى أقطاب الأرض ورميهم في أرض فلسطين، قائلين لهم: "هذه أرضكم الموعودة، انتشروا فيها ولكم دعمنا الكامل منقطع النظير، الأرض والشعب والمال والسلاح والقرارات، وكل ما يتطلب الأمر لبقائكم بعيدين عنا".
على حساب الفلسطينيين، أبناء الأرض، باشرت الدولة الوليدة، إثر علاقة غير شرعية، بالتوسع والاستيطان داخل دولة فلسطين، نهب لا حدود له للأرض
على حساب الفلسطينيين، أبناء الأرض، باشرت الدولة الوليدة، إثر علاقة غير شرعية، بالتوسع والاستيطان داخل دولة فلسطين، نهب لا حدود له للأرض، وممارسة أبشع وأفظع الجرائم بحق الشعب الفلسطيني، إبادات جماعية، تقتيل وتهجير وحصار وتجويع على مرأى العالم ومسمعه. شيئًا فشيئًا صارت فلسطين برمتها محتلة وأصحاب الأرض بلا أرض.
وبشكلٍ منافٍ للأخلاق والإنسانية، يتعامل العالم والمجتمع الدولي مع القضية الفلسطينية بسطحية مغمورة بالخزي والعار، يناقشون وينظِّرون في حال القضية اليوم، ويتناسون أمسها، وهو مبتدأ الحكاية ومفتاح حلّ عقدتها.
إنهم يحتالون على الزمن، يحاولون اجتزاء الحكاية من منتصفها، يسعون لتمزيق صفحات محورية من كتاب التاريخ، الشاهد الذي لا يرحم، وهم يدركون جيدًا مدى خطورة هذا الشاهد على وجود الفكرة الصهيونية في أرض فلسطين، وقدرته على تعرية حقيقة هذا الكيان الواهن وكشف زيفه.
أمام عدسات الكاميرا، وعلى الهواء مباشرة، تمارس إسرائيل أبشع الانتهاكات وترتكب أفظع الجرائم بحق الفلسطينيين، فلا نسمع للعالم صوتًا، وعند أول رصاصة يطلقها الفلسطينيون ردًا على جرائم الاحتلال، ينتفض العالم عن بكرة أبيه صارخًا ومولولًا بمظلومية إسرائيل، الطفل المدلَّل للمجتمع الغربي.
على مدار ثمانية عقود، وهذا الطفل المدلل يوغل في ارتكابه الجرائم في فلسطين وشعبها، بينما المجتمع الدولي يغط في نومه لا يرى ولا يسمع، وحين جاء طوفان المقاومة في السابع من أكتوبر المنصرم، استيقظ هؤلاء النائمون من مراقدهم فجأةً ليصرخوا: هذا إرهاب. في واحدة من أبهى صور ازدواجية المعايير الأخلاقية، وأكثرها وضوحًا لكل مبصر.
خلاصة الأمر، تدرك إسرائيل أنها تقف أمام قاضٍ أعور، يرى الأشياء بعين واحدة فقط، الأمر الذي مكَّنها من استباحة أرض فلسطين، ودم شعبها ببجاحةٍ إجرامية لا مثيل لها، ثم حين يرتفع صوت القهر الفلسطيني، تغوص إسرائيل في دور الضحية الذي صارت تتقنه جيدًا، فينسى القاضي أصل الحكاية ويصدر حكمه: إسرائيل ضحية.