إضاءات شعرية: "وجلدة بين العين والأنف سالم"
تسري بعض أبيات الشعر مسير الأمثال، يردّدها الصغير والكبير في مواقف شتى، ربما لا يحيطون علماً بقائلها، على طريقه "يكاد من شهرة اسمه ألا يُسمّى"، غير أنّ التنقيب يفاجئنا بدرر لم تخطر لنا على بال، ويأخذنا في رحلة ماتعة متعدّدة الفوائد والفرائد.
كتب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج بن يوسف الثقفي يوماً "أنت عندي سالم"، فلم يفهم مراد الخليفة، وجمع العلماء ليخبروه بالمعنى المقصود، فلم يصلوا إلى شيء، فقال له قتيبة بن مسلم الباهلي (وكان راويةً للشعر حافظاً له عالماً به)، إن أخبرتك توليني خراسان، قال نعم، قال: "يريد أنك عنده في أرفع المنازل"؛ فسأله الحجاج: "ومن أين لك هذا؟". قال قتيبة: "أراد قول عبد الله بن عمر في ابنه سالم (يديرونني في سالمٍ وأديرهم/ وجلدة بين العين والأنف سالم).
كان ذلك هو مراد عبد الملك فعلاً، ووفّى الحجاج بوعده فولّى صاحبه خراسان. وردت هذه القصة في عدد من كتب التراث، وأوردها الزمخشري في "ربيع الأبرار" باقتضاب، وعلى النقيض أورد العصامي في "سمط النجوم العوالي" القصة بتفاصيل محرجة، وربما تصل إلى درجة الحشو.
تختلف الروايات هنا، إذ يورد بعضها أنّ قتيبة دخل على الحجاج وأجابه عنه بأن يتولى خراسان، وذلك على طريقة قول جرير بن عطية لعبد الملك بن مروان (سأشكر إن رددت عليّ ريشي/ وأنبتّ القوادم في جناحي)، ويصعب أن يفعل قتيبة أو غيره ذلك مع الحجاج، ولذلك نجد روايات أخرى (منها التذكرة الحمدونية)، والتي تقول إنّ قتيبة يومها كان والياً على خراسان، وإنّ الحجاج كتب إليه يستفهمه الأمر، ورد قتيبة بما أثلج صدر الحجاج فثبّته على ولاية خراسان.
ينفرد محمد بن يزيد المبرّد في كتابه "الفاضل"، بأنّ الحجاج كتب لابن هبيرة وليس لقتيبة، إذ يقول: "ويُروى أنّ عبد الملك كتب إلى الحجّاج "بسم الله الرحمن الرحيم -أمّا بعد- فإنّك سالم والسلام"، فأشكل على الحجّاج وأرق لذلك ليلته، فقال له ابن هبيرة: "ما يسهر الأمير؟"، فقال:" كتاب كتبه إليّ أمير المؤمنين فيه كذا"، قال: "فإن أعلمتك معناه فما لي عندك؟" قال: "ولاية خراسان"، فقرأ عليه الكتاب، فقال عمر: "أخذه من قول القائل (يديروننى عن سالم وأديرهم)؛ فولاه خراسان".
ولعلك تسأل: لماذا اختار عبد الملك هذه الكلمات على وجه التحديد ولم يختر غيرها؟ وما وجه البلاغة في ذلك؟ والجواب أنّ الحجاج كان يتفاصح على عبد الملك في رسائله، ولذلك كان الخليفة يرميه بقوارع القول من آن لآخر، لا سيما أنه (عبد الملك) بدأ حياته يطلب الفقه، وينهل من الشعر، وكان في تصوّر أهله أنه سيكون فقيهاً، وذلك قبل أن تأتيهم الخلافة، إن طوعاً وإن سعياً.
من أكيد الأدلة على ذلك، أنه كتب للحجاج مرّة "إنك عندي قدح ابن مقبل"، فلم يعرف الحجاج المراد، فدخل عليه قتيبة (أو كتب إليه في خراسان، ربما) فبشّره بأنّ الخليفة يمدحه، والدليل قول ابن مقبل يصف قدحاً له (غدا وهو مجدولٌ وراحَ كأنّه/ من الصَّك والتقليب في الكفّ أفطحُ/ خروجٌ من الغُمَّى إذ صكّ صَكةً/ بدا والعيون المستكفّة تلمحُ)، وقدح ابن مقبل يُضرب مثلاً في حسن الأثر.
التنقيب في التراث يفاجئنا بدرر لم تخطر لنا على بال، ويأخذنا في رحلة ماتعة متعدّدة الفوائد والفرائد
وفي ثالثة، كتب عبد الملك للحجاج: "أوصيك بما أوصى به البَكريُّ زيداً"، فلم يدرِ ما معناه، وجمع الناس وسألهم فلم يفهموا، فدخل عليه أعرابيٌّ فقال: "فيمَ أنتم؟". فأخبروه، فقال: "عنْدي -والله- علمُه". قال: "وما هو؟". قال: "قول القائل: (أقولُ لزيدِ لا تُتَرْتِر فإنهم/ يَرونَ المنايا دونَ قتلِكَ أو قتلي/ فإن وَضَعوا حرباً فضعها وإن أَبَوا/ فشُبَّ وقودَ النَّارِ بالحطبِ الجَزْلِ)؛ فقال الحجاج: "صدق، قد أكثرنا على أمير المؤمنين، فقال: "لا تترتر، ووصل الأعرابي".
بعدها، كتب الحجاج إلى المهلب إنّ أمير المؤمنين أوصاني بما أوصى به البكري زيداً، وأنا أوصيك بذلك، وبما أوصى به الحارث بن كعب بنيه؛ فنظر وصيةَ الحارث بن كعب فإذا فيها "يا بنّي كونوا جميعاً ولا تكونوا شيعاً فتفرقوا، وترووا قبل أن تنزوا، فموت في قوة وعز، خير من حياة في ذل وعجز"؛ فقال المهلب: "صدق البكري، وصدق الحارث وأصاب".
ثمّة مصادر أدخلت كاف التشبيه على قول عبد الملك، ليصبح "أنت عندي كسالم"، منها "الصحاح" و"سمط النجوم العوالي"، نقلاً عن "مروج الذهب"، وكذلك معجم "متن اللغة"، وإن كانت البلاغة تقتضي حذف التشبيه، فذلك أقوى وأوقع، ونقل لنا الأصمعي أنّ أعرابياً قال له: "إنكم (معاشر أهل الحضر) لتخطئون المعنى، وإن أحدكم ليصف الرجل بالشجاعة فيقول إنه كالأسد، ويصف المرأة بالحسن فيقول إنها كالشمس، لِم تجعلون هذه الأشياء بهم أشبه؟!".
لعلنا شفينا صدر القارئ العزيز بالإجابة عن الشق الأول من السؤال، وفي السطور اللاحقة يأتي بيان وجه البلاغة في هذه القصة وأشباهها.
التلميح
في "الوافي بالوفيات"، قال الصفدي: "اشتهر هذا البيت كثيراً، ورُوسِل به، وكتب به عبد الملك إلى الحجاج، وقد أكثروا فيه القول"، وهذا صحيح فالبيت في مصادر يضيق المجال عن حصرها، من بينها أغاني أبي الفرج الأصفهاني، وطبقات ابن سعد، وتاريخ دمشق لابن عساكر، وتهذيب الكمال للمزي، ولسان العرب لابن منظور، وشمس العلوم للحميري، والمعارف لابن قتيبة، وسير أعلام النبلاء للذهبي، وثمار القلوب في المضاف، والمنسوب للثعالبي، وشرح ألفية ابن مالك وقائمة طويلة من أمهات الكتب.
وأورد الجاحظ في "البيان والتبيين": "خطب الوليد بن عبد الملك، فقال: أمير المؤمنين عبد الملك، قال إنّ الحجّاج جلدة ما بين عيني وأنفي، ألا وإنّي أقول: إنّ الحجّاج جلدة وجهي كلّه"، وفي "وفيات الأعيان"، كتب عمرو بن العاص لبعض أصحابه في شخص يعز عليه "أما بعد فموصل كتابي إليك سالمٌ والسلام"، أي يحل مني هذا المحل، في إشارة إلى البيت الذي ندوزن على وتره.
ونقل لنا صاحب "المصون في الأدب"، أنّ أبا عبد الله السفاح (أول خلفاء بني العباس)، تمثّل بهذا البيت وهو ينظر إلى أبي سلمة الخلال (أول وزراء الخلافة العباسية) وعقّب السفاح على البيت بقوله "أنت جلدة وجهي كله"، وإنما قصد أن يطمئنه أول الأمر، وبعد مدة يسيرة أرسل إلى أبي مسلم الخراساني يطلعه على خيانة الخلال، ويحرّضه على قتله، وقد كان، إذ قتله مرَّار بن أنس الضبي.
سنواصل الإبحار في التلميح عبر هذا البيت النفيس، ونعالج قضايا متعلقة به، من بينها قائل البيت وقصته، وتنازع الشعراء فيه، ولماذا أغلظ أهل اللغة لصاحب الصحاح بسبب هذا البيت؟ وأوجه اختلاف روايته في كتب اللغة، ولطائف أدبية شتى.
وللحديث صلة.