إنه السؤال يا غبي (2)
في البدء كان السؤال، لعل ذلك من أعراف أهل الحكمة، وقد أمضى سقراط حياته متسائلًا، تجرّع سم الشوكران ولم يتنصل من أسئلته. السؤال مدخل مهم للمعرفة، لذلك قيل "من أحسن السؤالَ عُلّم"، بالسؤال يقطع المرء نصف المسافة إلى الغرض المنشود، ويُفترض أن السؤال أول أدوات التحري والمعرفة والثقافة والتغيير، وغريب أن يسأل المرء سؤالًا سخيفًا ويتعامى عن الأسئلة المحورية.
أزرى كثيرون في العالمين الواقعي والافتراضي على جون دوير وسؤاله السطحي للغاية، تعاطف بعض أهل الخبرة مع سذاجته، قالوا إنه سيتعلم من هذا الخطأ، وستحنّكه الأيام وتصقل تجربته في طرح أسئلة مؤثرة وذات صلة بالشخصيات والسياق، ولا تخلو في الوقت ذاته من الذكاء الاجتماعي.
لا نختلف مع هؤلاء، لكننا نضع بين أيديهم نموذجًا آخر، هذا النموذج ليس لشاب طائش، ولا لكاتب خفيف الوزن والقيمة، إنما لكاتب من العيار الثقيل. قد تتفهم رعونة شاب في مقتبل حياته الصحافية، الحديث هنا ليس حصرًا للشاب جون دوير، لكن ماذا ستقول عن سايمون والترز؟ الصحافي البريطاني الفائز أربع مرات بجائزة صحافي العام، بدأ حياته الصحافية عام 1977، وبعد 38 سنة من الخدمة في ميدان الصحافة يسأل سؤالًا لا يبتعد كثيرًا عن سؤال الفتى الطائش!
في 2015، يسأل والترز -خلال السباق على زعامة حزب العمال البريطاني- ليز كيندال عن وزنها، وهل يسأل آدمي يتمتع بقواه العقلية هذا السؤال؟! لكن والترز فعلها، ولعله من الأسئلة المتحيزة جنسيًا، الغريب أنه لم يكن والترز وحده من استعمل سلاح التحيز ضد المرأة في ذلك الاستحقاق الانتخابي.
اللورد تشارليز فالكونر -مستشار الظل والداعم لمنافسها آندي بورنهام- في حديث لصحيفة "ذا تايمز" قال "إن المرأة ليست قوية بما يكفي لقيادة حزب العمال"، مضيفًا أنه لا يمكن لإيفيت كوبر ولا ليز كيندال قيادة حزب العمال خلال المرحلة الصعبة التي يمر بها، وشدّد على أنه عند الحاجة إلى زعيم فمن غير المرجح أن تتفوق المرأتان على جيرمي كوربين، ولن يصمد في وجهه سوى بورنهام.
التحيزات اللغوية ضد المرأة تضر بتصورات الناخبين، وتقلّل من احتمالية انتخاب النساء
فالكونر فاعل سياسي لا يخبط خبط عشواء، إنما يستخدم كلماته بعناية قاصدًا التأثير في الجمهور، وينظر للأمور حسب فهمه الخاص وخلفياته السياسية وبرنامجه وأولوياته، وهذا يفتح المجال للمغالطة أو الإيهام أو التضليل أو التمويه. بعبارة باتريك شارودو -اللساني الفرنسي وأحد أعلام مجال تحليل الخطاب- فإن فالكونر استخدم استراتيجيات خطابية مثل "استراتيجية طرح الإشكالية"، و"استراتيجية تحديد الموقف"، والإشكالية هنا، أن كوربين ليس باللقمة السائغة، ولإزاحته عن تزعّم حزب العمّال، فإن الحاجة ماسة لمنافس شرس مثل بورنهام، وهذه صفة لا تتوفر في ليز أو إيفيت، وموقفه واضح بهذه البساطة وبهذا التحيز.
دشّن "العربي الجديد" ملفًا واعدًا عنوانه (العنف ضد المرأة)، والتحيز ضد المرأة نوع من أنواع العنف، وإن بدا في صورة لطيفة وبكلمات منمّقة، وليس ذلك حصرًا على منطقة أو فئة من الناس.
خذ مثلًا هذه الدراسة الأميركية التي أجريت لرصد تأثير التحيز الجنسي في الانتخابات، عام 2010، وشملت 800 ناخب محتمل، قُسِّموا إلى مجموعتين، طلب إليهم أن يسمعوا أوصاف اثنين من المرشحين المفترضين للكونغرس، هما دان جونز وجين سميث. المجموعة الأولى استمعت إلى مناظرة المرشحيْن تحتوي على كلمات متحيّزة، في حين استمعت المجموعة الثانية إلى مناظرة لا تحوي شيئًا من ذلك.
وجدت الدراسة أنه عند تضمين المناظرة لغة متحيزة جنسيًا، خسرت جين سميث ضعف الدعم مقارنة بالمناظرة التي ارتكزت على سياستها فحسب، ففي المجموعة الأولى حصلت جين سميث على 33% من أصوات الناخبين، بينما حصدت 43% من الأصوات في المجموعة الثانية.
توصلت الدراسة التي نشرتها صحيفة "ذا غارديان" البريطانية إلى أن اللغة المتحيزة جنسيًا قوّضت النظرة العامة وحصرتها في نطاق مظهر المرأة وجاذبيتها الجنسية، مما ترتّب عليه تراجع التعاطف مع المرشحة والشك في جدارتها بالثقة.
بعد ثلاث سنوات، أجريت دراسة متابعة للدراسة السابقة، هذه المرة بدعم من (Name it, Change it) المهتمة برصد التحيز ضد المرأة في الإعلام، وخضع للدراسة 1500 ناخب محتمل لانتخاب اثنين من المرشحين الوهميين، وقُسِّم الناخبون إلى أربع مجموعات؛ المجموعة الأولى لم تسمع أي إشارة متحيزة جنسيًا، المجموعة الثانية سمعت أوصافًا متحيزة إيجابيًا بخصوص مظهر المرأة، المجموعة الثالثة سمعت أوصافًا محايدة، والمجموعة الرابعة سمعت أوصافًا متحيزة سلبيًا، إذ استعملت الدراسة أوصافًا حقيقية مأخوذة من تغطيات إعلامية سابقة لمرشحات في انتخابات 2012.
توصلت الدراسة إلى أنه عند التركيز على مظهر المرأة، حتى التي تمدح مظهر المرشحة السياسية، فإن ذلك ينعكس سلبًا على فرصها في الانتخابات، وله تأثير ضار على مستقبلها السياسي، إذ إن التحيزات اللغوية ضد المرأة تضر بتصورات الناخبين، وتقلّل من احتمالية انتخاب النساء.
ولقائل أن يقول: لماذا تعرض أمثلة عدة لحالة كهذه؟ والجواب أن الدرس يتكرر إلى أن يستوعبه المرء ويتفادى الوقوع فيه، يتكرر الدرس في مجالات مختلفة، ولأناس متفاوتي الثقافات والمهارات والمواهب والمناصب، وللأسف يقع فيه كثيرون، كأن شيئًا لم يكن! وبصوت المونولوجست سيد الملاح "اقعدوا، أنتوا لسه شوفتوا حاجة؟".
والتحيز الجنسي مجال تسهل فيه إساءة الكلام، وليس قاصرًا على السياسة وحدها، ففي نهاية يوليو/تموز 2016، سُرِّح كيفن روبرتس المدير التنفيذي لشركة (ساتشي آن ساتشي) من عمله بعد تصريحات متحيّزة أدلى بها في مقابلة مع بيزنس إنسايدر، أشار فيها إلى أن النساء في الإعلانات يفتقرن إلى الطموح ويسعدن بالقيام بعمل إبداعي رائع.
وفي شركة غوغل -عملاق التكنولوجيا الأميركية- أشار المهندس جيمس دامور ضمن مذكرة داخلية إلى أن النساء أقل ملاءمة للوظائف في مجال التكنولوجيا من الرجال، وانتقد مبادرات إدماج الإناث في الوظائف التي يهيمن عليها الذكور، وحاول تقديم مبررات لنقص التمثيل النسائي في التسلسل الهرمي بالشركة.
زعم دامور أن السبب المحتمل لذلك يرجع إلى الاختلافات البيولوجية بين الرجل والمرأة، سُرّبت المذكرة للإعلام، وتحت الضغط المتزايد أقيل من عمله. وفي نقله سريعة إلى المختبرات العلمية يطل علينا تيم هانت صاحب نوبل، ولنا معه حديث لاحق.