ازدواجية الجنسية كمخرج طوارئ؟
"مزدوجو الجنسية" تبقى هذه الجملة بمثابة أحجية قانونية بالنسبة لي: ما الذي يعنيه هذا التعبير قانونياً عند ارتكاب أحد مزدوجي الجنسية جريمة حرب أو جريمة ضد الإنسانية أو جريمة إبادة جماعية، كتلك الجارية منذ أكثر من شهرين في قطاع غزّة، وذلك، كما يُقال، على رؤوس الأشهاد؟
إن كان المرتكب مزدوج الجنسية، فإلى أيّ محكمة تحتكم الضحية؟ في أيّ البلدين الذين ينتمي إليهما؟ وفي وضع الأسرى من مزدوجي أو حتى متعدّدي الجنسية، هل من الممكن إطلاق سراح جندي أسير مستفيدًا من حماية جنسيته الأخرى؟ ما هي المقاييس لدى المقاومة في غزّة؟
بالنسبة للسؤال الأخير، أكاد أجزم أنّ شفاعة الجنسية الأخرى غير صالحة، خاصة لغير المدنيين، إلا ربّما بضغوط أو أثمان تدفعها دولة جنسيته الأخرى. لكن السؤال الأهمّ على المدى الطويل: هل من الممكن أن ينفذ مجرم من المحاكمة باللجوء إلى جنسيته الأخرى؟
ولأشرح أكثر: إن كان المجرم قد ارتكب جريمته بوصفه ضابطاً أو قائداً عسكرياً أو أمنياً أو سياسياً إسرائيلياً كما هو حاصل اليوم في قطاع غزّة، فهل يمكن أن يُلاحق كفرنسي أو بريطاني أو أميركي إن كان يحمل جنسية تلك البلدان أيضاً؟ لأنّه بالطبع لا تمكن محاكمته كإسرائيلي في إسرائيل ولا في أراضي السلطة الفلسطينية. فهل من الممكن معاقبته، أو نفاذه من العقوبة، بصفته تلك؟ أي هل تشكل الجنسية الثانية مخرج طوارئ للمجرمين من متعدّدي الجنسية؟
تزدحم الأسئلة في عقلي: هل يخدم مزدوجو الجنسية عسكرياً في جيش كلتا الجنسيتين؟ هل يدفعون ضرائبهم كذلك للجهتين؟ ذلك أن حقوقاً كثيرة تترتب على نوع الواجبات التي يجب أن يقوم بها مواطن ما تجاه البلاد التي يحمل هويتها.
إن كان المجرم قد ارتكب جريمته بوصفه ضابطاً أو قائداً عسكرياً أو أمنياً أو سياسياً إسرائيلياً كما هو حاصل اليوم في قطاع غزّة، فهل يمكن أن يْلاحق كفرنسي أو بريطاني أو أميركي إن كان يحمل جنسية تلك البلدان أيضاً؟
بالطبع، لم أكن وحدي من يتساءل عن هذه القضية. أسئلة عديدة طرحها هذا الواقع غير البسيط للكثير من حاملي الجنسية الإسرائيلية إضافة لجنسية بلدهم الثاني (أو الأوّل أحياناً كونهم من الوافدين اليهود إلى فلسطين المحتلة) ممن وقعوا في أسر المقاومين الفلسطينيين في عملية طوفان الأقصى، تبدت تعقيداته في مسألة تبادل الأسرى المدنيين والعسكريين الذين تحرص إسرائيل، وإعلام الدول المتواطئة معها، على وصفهم بالرهائن.
وعلى فكرة، فإنّ اختلاف المصطلحات ليس بسيطاً. فلكل تعبير ترجمة قانونية، ووضع يصنّف شرعياً أو غير شرعي على أساسه. رهائن أو أسرى أو مختطفين كما اعتمدت تسميتهم وسائل الإعلام المنحازة لإسرائيل، هذا يحدّد أيضاً صفة الجهة التي أسرتهم ومدى شرعيتها: فهل هي ند للجهة الأخرى المتحاربة معها؟ إن كانت كذلك، فهم أسرى وما يدور بينهما حرب، ولذلك تبعات قانونية وفقاً لقوانين الحروب وللقوانين الدولية. أمّا إن كانوا رهائن، ففي ذلك نفي لشرعية من "اختطفهم" و"رهنهم"، ما قد يعني أنّهم مجموعة "من الأشرار" أو الخارجين عن القانون ويحق للجهة المتضرّرة وصفهم بالعصابة، أو حسب الرائج هذين اليومين: منظمة إرهابية.
فلنقل إنّ فرنسياً يحمل الجنسية الإسرائيلية إضافة لجنسية بلاده الأصلية، أثبتت التحقيقات أنّه أعطى الأمر بقصف المدنيين أو المستشفيات في غزّة بوصفه مسؤولاً عسكرياً إسرائيلياً، فهل من الممكن ملاحقته حسب القانون الفرنسي؟
قلنا لنسأل أصحاب الاختصاص: يقول لنا البروفيسور في القانون ووزير العدل السابق في لبنان إبراهيم النجار إنّ "الحماية الناتجة عن حمل جنسية أجنبية لا تعني أنّ الجاني أو المجرم أصبح بمنأى عن العقاب".
هل يخدم مزدوجو الجنسية عسكرياً في جيش كلتا الجنسيتين؟ هل يدفعون ضرائبهم كذلك للجهتين؟
ويزيد موضحاً: "إنّ القانون الذي يطبق على الأعمال الجرمية أو الجنائية يطبّق مكان وقوع الجرم". فلو "قتل فلسطيني لبنانيا في لبنان، مثلا، فإن محاكمته ستجري على أرض لبنان ولو كان الفلسطيني حاملا لجنسية أخرى، كالأردنية مثلا أو حتى غيرها". أمّا بالنسبة للحماية، فيقول إنّه "مبدئياً على الدولة التي يحمل جنسيتها أن تتابع موضوعه في كل أنحاء العالم، لأن من يحمل جنسية دولة معينة هو جدير بحمايتها التي قد تكون أمنية أو قنصلية".
هذا بالنسبة للمدنيين، أمّا بالنسبة لجرائم القادة الإسرائيليين في غزّة، فتشرح لنا المحامية السابقة في المحكمة الجنائية الدولية ديالا شحادة أن "المرجع الصالح لمحاسبة الأشخاص المرتكبين جرائم ذات طابع دولي، تحديدًا جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الإبادة الجماعية وجرائم العدوان، والتي تندرج ضمنها جرائم استهداف المدنيين، التعذيب، التنكيل بالأسرى، استهداف المباني السكنية والمستشفيات والمدارس والمقار الأممية، إضافة لجرائم الفصل العنصري والتهجير القسري والاستيطان، كل هذه الأنواع مرجعها، إمّا أن يكون دولياً، وبالتحديد المحكمة الجنائية الدولية (دخلت حيّز النفاذ منذ الأول من تموز من العام 2002)، أو المحاكم الوطنية ذات الاختصاص القضائي العالمي". وتضيف: "اختصاص المحكمة الجنائية الدولية انعقد على الجرائم الواقعة في فلسطين منذ الثاني من ديسمبر/ كانون الأول من العام 2015 عندما انضمت إليها هذه الأخيرة وصادقت كدولة طرف على اتفاقية روما المنشئة للمحكمة الدولية، وذلك بعد أن جرى الاعتراف بها كدولة مراقبة (غير كاملة العضوية) في 29 أكتوبر/ تشرين الأوّل من العام 2012 بقرار صدر بأكثرية 139 دولة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة".
وتضيف: "قبل هذا التاريخ، لم تتقبل المحكمة الجنائية الدولية مساعي فلسطين لمقاضاة إسرائيل كونهم (أي الفلسطينيين) لم يكونوا دولة بنظر الأمم المتحدة، بل كانوا يحظون بمقعد منظمة مراقبة، أي كان لديهم مجرّد مقعد كسلطة فلسطينية. فالمحكمة الدولية لا تحاكم الدول والأنظمة بل الأفراد، لكن ليست لديها القدرة على محاكمة كلّ من يرتكب الجرائم، أي آلاف العساكر أو المرتزقة، فهي تحاكم المسؤولين الأعلى إن كانوا في السلطات السياسية أو العسكرية أو الأمنية التي ثبت أنها أعطت الأوامر بتلك الجريمة". وأشارت شحادة إلى أنّ "المحكمة الجنائية الدولية مستقلة تماماً ولا سلطة عليها لمجلس الأمن أو الأمم المتحدة مع استثناء بسيط (بموجب المادة /16/ من نظام روما الأساسي المنشئ للمحكمة) لم يحصل حتى اليوم، ويتمثّل في أن يطلب مجلس الأمن بأكثرية أعضائه (ومن دون فيتو طبعا) إرجاء تحقيق أو مقاضاة بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، أي حفاظاً على السلم والأمن الدوليين".
المحامية ديالا شحادة: "في إسبانيا، ألمانيا، فرنسا، بلجيكا أو بريطانيا، ممكن أن نحاكم الأفراد الإسرائيليين المرتكبين والذين يحملون جنسية هذه البلدان من قبل الأشخاص المتضررين، ولو كان الشاكي شخصا واحداً"
"لكنّ (تستدرك شحادة) ثمّة ملاذاً قضائياً آخر غير الجنائية الدولية. ففي بعض الدول، هناك محاكم محلية لديها ما يسمّى "الاختصاص العالمي للقضاء الوطني"، تحديداً بالجرائم الخطيرة إن كانت دولية أو غير ذلك كجرائم الإخفاء القسري والتعذيب". وتضيف إنّ "معظم دول أوروبا مثلا عندها هذا الاختصاص. ويشترط لانعقاد هذا الاختصاص غالباً أن يكون المشتبه فيه موجوداً على أراضي تلك الدولة أو يحمل جنسيتها أو لديه فيها إقامة. وعكس ما هو قائم في المحكمة الجنائية الدولية، فإنه بإمكان المتضرّر كفرد أن يتقدم بدعوى إلى هذه المحاكم ليحرّك الإجراء القضائي".
وعليه، "تُمكن محاسبة الأفراد المرتكبين نوعاً معيناً من الجرائم في المحاكم المحلية بحسب شروطها. أي أنه مثلا في إسبانيا أو ألمانيا أو فرنسا أو بلجيكا أو بريطانيا، ممكن أن نحاكم الأفراد الإسرائيليين المرتكبين والذين يحملون جنسية هذه البلدان من قبل الأشخاص المتضررين، ولو كان الشاكي شخصاً واحداً".
نعلم اليوم أنّ هناك جموعاً من المحامين الدوليين، أو حسب تعبير قائدهم وصاحب المبادرة المحامي الفرنسي جيل دوفير، "جيشاً من المحامين من كلّ أنحاء العالم"، اجتمعوا وتوكلوا عن غزّة لمقاضاة إسرائيل لارتكابها إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب، بالصوت والصورة والوثيقة على مرأى ومسمع من العالم أجمع.
وعلينا أن نشير إلى أنّ الدولة السباقة لمقاضاة إسرائيل على جرائمها كانت الجزائر، منسجمة مع نفسها وتاريخها الشخصي من جهة، والطويل في نصرة القضية الفلسطينية من جهة أخرى.
جموع من المحامين الدوليين، أو حسب تعبير قائدهم وصاحب المبادرة المحامي الفرنسي جيل دوفير "جيشاً من المحامين من كلّ أنحاء العالم"، اجتمعوا وتوكلوا عن غزّة، لمقاضاة إسرائيل لارتكابها إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب
بالطبع، كل هذا جيد، ولكنه سيأخذ وقتًا طويلاً. ولا شك أنّه سيصبح متعلقاً، كما أثبتت التجارب السابقة، خصوصاً في القضايا التي توّكلها المحامي الأسطوري الراحل جاك فيرجيس، بالظروف السياسية وموازين القوى وضغوط التكتلات، وقد لا نخلص إلى أي إدانة إن بقي أنصار فلسطين ضعفاء أو لم يتخل الأقوياء من بين الدول عن نصرة إسرائيل، وهو شيء لن يتم إلا بضغط الرأي العام واستمراره بذلك.
وعليه، فإنّ الملاحقة يجب أن تحصل على أكثر من جبهة: الجنائية الدولية من جهة، والمحاكم المحلية ذات الاختصاص في الدول التي تحويها. صحيح أنّ الملاحقة ستستغرق وقتاً طويلاً جداً، خصوصاً في ظلّ التواطؤ الغربي الطاغي مع إسرائيل. ومع ذلك، علينا أن نتمثل بالدروس التي أعطاها لنا، يا للمفارقة، اليهود الناجون من المحرقة النازية، أولئك الذين أطلقت عليهم تسمية "صائدو النازيين"، والذين لم يكلوا لعقود وعقود عن ملاحقة مجرمي المحرقة الهاربين بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، حتى القبض عليهم ومحاكمتهم، مهما تخفوا بجنسيات وأسماء، وحتى وجوه أخرى.
بهذا، على الأقل، ندين لفلسطين، لا بل لأنفسنا، كي نستطيع أن ننظر من دون خجل، نهاية النهار، إلى وجوهنا في المرآة.