"اشهد يا عالم"... يرحل الصوت ولا تنحني هامة الفدائي
لطالما تمنيت حضور حفل لفرقة "أغاني العاشقين" الفلسطينية. ولا بأس إن كان كلّ الحفل إعادة لأغنية واحدة: "اشهد يا عالم"، أحبّ أعمال الفرقة إلى قلبي. هذه الأغنية العظيمة العظيمة... الملحمة، أكبر من أن نسمّيها أغنية وكفى. هي تجربة فنية فريدة، على كلّ مهتم بالقضية الفلسطينية خوضها، وعلى غير المهتمين كذلك.
المتمعّن في الكلمات يلمس حزناً ووجعاً. حزن ووجع دفين نعم، لكنّ الفلسطينيّ أَنوف إذا دوّن سيرة وجعه. أتخيّل الشاعر الفلسطيني أحمد دحبور وهو يكتب بيد، وبالأخرى قابضاً على صدره يشدّ أزر قلبه. يلفّ الحزن في مفرداته بغضب مكابِر، إذ يروي أحداث حصار بيروت ونحو 80 يوما من صمود الفدائيين الفلسطينيين والقوى الوطنية اللبنانية أمام الاجتياح الإسرائيلي للعاصمة اللبنانية عام 1982. يكتب أحداث الملحمة كرونولوجيا: الغارة الأولى، الوحدة الفلسطينية اللبنانية، سرقة المعونة الطبية، الخذلان العربي.. حتى مغادرة بيروت. ويؤرّخ لذاكرة المكان: صبرا، المية ومية، شاتيلا، برج البراجنة، قلعة شقيف... لم يهمل دحبور تفصيلاً، كأنه يخشى إن تتالت الأوجاع، سقوط بعضها من الذاكرة.
كتب دحبور "اشهد يا عالم" واقترح لها لحناً فلكلورياً كان يسمعه في طفولته من جدته، طوّره الموسيقار الفلسطيني القدير حسين نازك. هكذا كانت ولادة لحن بيروت، وحسين نازك لم يطوّر فكرة لحن فقط، بل فعل بأبيات أحمد دحبور ما يشبه السحر. لقد صيّر وجع بيروت المكابر مقاومة، والمقاومة التزام وانضباط يترجمه الحفاظ على النسق ذاته في اللحن، والمقاومة حركة واندفاع وحماس أيضاً يترجمه حضور آلات الإيقاع. تعوزني المعرفة الموسيقية، فأشرح لنفسي وأفسّر بالإحساس. وإذ يلفتني حضور المجوز، أتساءل عمّا يفعل في أغنية عن معارك واجتياح وشهداء؟ فأجيبني بيسر: "تزفّ الفلسطينيات أبناءهن شهداء بالزغاريد. ومجوز خالد الهباش زغاريد ترافق خطوات الفدائيين".
أحلّل وأناقش وأنا أستمع إلى نسخة حديثة من الأغنية على يوتيوب تعود إلى العام 2012. أدين بالشكر لصاحبها، واسمه فؤاد، فقد حضر حفل فرقة العاشقين بالجامعة الأهلية في عمّان آنذاك، وشاركنا أجواء استثنائية. يا للحماس الذي تخلقه الأغنية! يتعرّف فؤاد على الأغنية في الثانية العاشرة من انطلاق عزف مقدمتها الموسيقية، فيقول مخاطباً رفاقه في الحفل: "اشهد يا عالم علينا وع بيروت .. يلا غنوا". يا للحماس الذي تخلقه الأغنية! بدأ الجمهور الغناء قبل الفرقة، وما إن غنّى العاشقون، حتى وجدتني أغنّي معهم مثلما طلب فؤاد، وانسجمت عبر السماعات كأنّي في الحفل.
"اشهد يا عالم"... تجربة فنية فريدة، على كلّ مهتم بالقضية الفلسطينية خوضها، وعلى غير المهتمين كذلك.
أنتجت الفرقة الأغنية عام 1982، ضمن ألبوم "الكلام المباح" الذي انهمكوا في العمل عليه والمعارك في لبنان بعد دائرة. وفي حفل عدن عام 1982، قدّموها على المسرح للمرّة الأولى، وحظيت بتفاعل مميّز من الجمهور. يقول دحبور: "كان موعدنا الكبير، في عدن، يوم ظهرت فرقة أغاني العاشقين كاملة العدد، يصدح فيها أبو علي المنذر بأغنية اشهد يا عالم علينا وع بيروت". وصف أثار غيرتي، فرحت أبحث لعلّي أظفر بنسخة في حفل بتونس، فأقارن، لكنّي لم أوفّق. أحيت الفرقة عندنا حفلا عام 1992، وقد شاهدت تسجيلاته المتوّفرة على اليوتيوب وفيسبوك، ولم أجد ضمنها الأغنية.
أعود إلى نسخة فؤاد في الـ2012 الضاجّة حياة، فأنا أفضّلها على نسخة الثمانينيات الرتيبة رغم الشجن. تقتحم الأغنية أذني عبر السماعات، وأرفع الصوت أكثر طلباً لمزيد من النشوة الفنية، وحرصاً على تواصل الحالة الحماسية. أقول لنفسي: "بمكبرات الصوت ستكون الأغنية ثورة عارمة". وأترك لخيالي العنان، أتخيّل الفرقة تنشد في المسرح الأثري بقرطاح بلا مقاعد شاغرة، لنفاذ التذاكر وحماس الحضور، أو ربّما في قاعة الأوبرا بمدينة الثقافة لمزيد من الحميمية.
يُعلن قائد "العاشقين"، أبو علي حسين منذر، اسم الأغنية، على غير العادة، فيجنّ الجمهور. يبتسم هو بثبات، ويمنحنا مساحة زمنية لتتعالى الهتافات والتصفير. يعزف خالد الهباش لحن المقدمة بالمجوز، فأقول لأصدقائي "اشهد يا عالم علينا وع بيروت.. هذي أكثر غناية نحبها للعاشقين، حافظينها؟ غنوا". نعود إلى العام 1982، وننغمس في الحالة. نغنّي لفدائيي بيروت بكلّ جوارحنا وما أوتيت حناجرنا من قدرات صوتية، وأعلام فلسطين والكوفيات ترفرف. ينسجم الكثير من التونسيين بزيادة، ويرقصون الدبكة، ويبتهج أبو علي بنا. ستكون تلك أغنية الحفل الختامية فنطلب كعادتنا إعادتها. يلبّي أبو علي طلبنا، ونغنّي معا مجدّداً لبيروت وفلسطين.
ما أجمل ما يسعفنا به الخيال، لكن هيهات! لن يُكتب لنا لقاء حسين منذر، فقد غادرنا الأحَد، ابن بعلبك الفلسطيني بالانتماء قلبياً وتنظيميا. رحل فنان الثورة الفلسطينية كما يلقّب، في أيلول/ سبتمبر المثقل بالأحزان والبطولات الفلسطينية: أيلول الأسود، ومجزرة صبرا وشاتيلا، واتفاق أوسلو، وهبة النفق، وانتفاضة الأقصى، والانسحاب الإسرائيلي من غزة. وأيلول شهد أيضا انسحاب الجيش الإسرائيلي من غرب بيروت بعد احتلال دام 16 يوماً، تلا خروج منظمة التحرير الفلسطينية عام 1982. ولعلّه الشهر الذي شهد ميلاد الأغنية، فأبيات القصيدة إذ توثّق الأحداث، تنتهي ببيت يصف مغادرة الفدائيين بيروت، وكان ذلك أواخر أغسطس/ آب.
لو كتب لي لقاء حسين منذر لسألته كيف يمسك نفسه عن البكاء عند غناء "بيروت"، وأيّ رباطة جأش يملك حين يغني هذا البيت تحديدا؟ في كلّ مرة أستمع إلى الأغنية تتسلّل إلى رأسي في ختامها، من بين كلّ الفيديوهات والصور التي شاهدتها للأحداث، صورة بعينها لفدائي يرفع شارات النصر في وداع بيروت. وإذ يرتفع صوت حسين منذر بكلّ اعتزاز وأنفة يغنّيه، تغلبني دموعي...
"لا راية بيضاء رفعنا يا بيروت
ولا طلعنا بهامة محنيّة".