الأسلحة السينمائية الفاسدة (العاشرة والأخيرة)
خلال مسيرته الطويلة مع الدراما التلفزيونية والكتابة السينمائية لم يتعرض الكاتب الكبير أسامة أنور عكاشة لقضية الصراع العربي الاسرائيل بشكل مكثف أو في عمل مستقل، وإنما عبر مشاهد من بعض أعماله مثل مسلسلات ليالي الحلمية وأرابيسك وفيلم كتيبة الإعدام لكنه في مسلسل (امرأة من زمن الحب) أفرد مساحة أكبر للموضوع، وحين سألته عن شهادته في هذه القضية، كان البعد الرقابي حاضراً في حديثه، خصوصاً بعد الأزمة التي أثارتها صحف مؤسسة أخبار اليوم حين كلفته القوات المسلحة بعمل فيلم عن حرب أكتوبر، فاعتبر إبراهيم سعدة رئيس تحرير (أخبار اليوم) أن عكاشة لن يكون الأصلح لكتابة فيلم عن النصر بوصفه كاتباً ناصري الهوى.
ومع أن الأستاذ أسامة رفض أن يسترجع وقائع هذه المعركة بعد سنوات من انتهائها لكنه قال لي: "لا أزعم أنني تعرضت لقضية الصراع مع اسرائيل إلا من خلال رصدي لما يحدث في مصر في السنوات الأخيرة والتلامس مع موقف المصريين من العدو وكان كل ذلك في محطات سريعة، وكان حلمي عمل فيلم أو مسلسل يبلور قضية صراعنا مع اسرائيل، لكن لازال هذا حلما يبتعد كل يوم فهذا عمل لن توافق عليه الرقابات المتعددة الرسمية والعرفية والإعلامية، وسيزداد الأمر صعوبة في حالة الرقابات العربية الأشد وطأة من رقابتنا في مصر، ولا يصلح عمله مع الأسف الشديد الا خارج الدول العربية عند ناس لا يضعون قيوداً على الأفكار. لكن في الوقت نفسه أنا لا أحمل الرقابة كل الذنب فاستخدامي التلميح والرموز ضد إسرائيل في بعض أعمالي وراءه أنني لا أحب تحويل المسألة الى هتافات ومظاهرات، وستلاحظ أنني تعرضت في كتيبة الإعدام للاتهام بصنع مظاهرة على الشاشة ضد إسرائيل، رغم أنني تكلمت بشكل فني عن أن الخيانة هي أم الفساد وكن هذا في رأيي هما مصريا خالصا، أنا أؤمن بأن الصراع المصري الإسرائيلي باق ولن ينتهي حتى لو حل الآخرون من العرب مشكلاتهم وهذا ما قلته في مسلسلي امرأة من زمن الحب بصراحة هذه المرة لأن الموضوع كان داخل في نسيج الدراما ودون إقحام عليها".
من موقع المتابعة للأعمال الفنية المصرية جاءت شهادة الكاتب والمؤرخ صلاح عيسى الذي يرى أن الابتذال السياسي شائع في كثير من الأفلام السياسية المصرية وليس فيما يتعلق منها بإسرائيل فقط، وهو يقول في شهادته التي نشرتها في مجلة (المصور): "على الدوام ستجد في السينما المصرية مجموعة موجات في السينما السياسية، في الخمسينات والستينات موجة أفلام تشهّر بالأسرة المالكة، في السبعينات موجة أفلام تهاجم مراكز القوى، في الثمانينات موجة أفلام تهاجم الفساد والانفتاح والفراخ الفاسدة، وفي التسعينات موجة أفلام تهاجم الإرهاب وإسرائيل، ودائما ستجد معابثة للعواطف الوطنية للجمهور للظهور بمظهر أصحاب الرسالات السياسية بمباشرة ساذجة وإضفاء مسحة من الجدية على أفلام هزيلة وتافهة، ولن تجد هذا مثلا في أفلام يوسف شاهين التي حتى لو اختلفنا معها ستجد فيها تعبا عقليا ومجهودا في الأفكار التي يقدمها".
يستسهل كثير ممن يدركون هذا الواقع المؤسف الحديث عن مسئولية الدولة وأجهزتها في تقديم أعمال سينمائية مختلفة وجادة، لأن المنتج الخاص سيظل محكوماً بمنطق الربح وحده
وحين سألت الكاتب الكبير محمود عوض أحد أبرز المتخصصين في دراسة الصراع العربي الإسرائيلي عن تقييمه لدور السينما المصرية في معالجة هذا الصراع قال لي منفعلاً: "المشكلة أن الفنانين عندنا عملوا توكيلا للسياسيين ليخوضوا الصراع نيابة عنهم عكس ما يجب أن يحدث، الموضوع تغير الآن ، كل واحد لازم يدرس الموضوع بنفسه، لا يوجد فهم معلب نأخذه في برشام، لازم الفنان يدرس ويتابع، ليس لكي يقول محاضرة في فيلم ولكن لكي يعرف لماذا وجد هذا الصراع ولماذا يتحمل جيل بعد جيل التضحية وماهي مصلحتنا في المستقبل، لذلك إذا تعرض الفنان سينمائيا للقضية عن فهم سكون ذلك مكسبا وليس عبئا، أما تصوير إسرائيل بالشكل الموجود في أفلامنا فهو تسطيح للقضية، كذلك الخلط بين اليهودية والصهيونية خطأ فادح، فنحن ليس لنا معركة مع التوراة، لنا معركة مع الجيش الإسرائيلي، البعد الديني في الموضوع ليس هو الأساس، فإسرائيل لم تولد بوعد مكتوب في التوراة بل بوعد كتبه بلفور، فلا تقل لي إن حرق علم إسرائيل هو مقياس الصلابة فنيا، هذا العلم ليس سوى نتيجة لمقدمات طويلة لن تزول بالحرق، ولا تقل لي أن وصفك إسرائيل بأنها نجسة سيساعد، طيب لو استحمت تبقى خلاص، هذا كلام مصاطب ولا يساعد أبدا، لابد أن نفهم لماذا نحن ضد إسرائيل، مش عشان هي أم رجل مسلوخة، ومش عشان نقول أنها أدخلت الإيدز إلى مصر، افرض أنها جابت ما يثبت أنه ليس لها دعوى بالحكاية، هل تبقى اتحلت المشكلة؟ الحقيقة إن تسطيح الفهم الوطني لإسرائيل مضر ويشفي غل صاحبه فقط، والحاجة الآن للفهم الصحيح لإسرائيل في ظل المعاهدة أخطر بكثير منه في غيابها، والقضايا المصيرية لا تبنى على شفاء الغل، فالفهم الصحيح هو الذي يثبت مع الزمن".
لا أريد أن أكون سوداوياً ومتشائماً وأنا أختم حديثي بالقول إن ما يتمناه كاتب مثل محمود عوض ونتمناه جميعا هو أمر يكاد يكون في حكم المستحيل في ظل سينما يحكمها رد الفعل، يجلس فيها المبدعون ليكتبوا مشاريع أفلامهم من نشرات الأخبار، تحدث جريمة قتل الطفل محمد الدرة أو تحاصر إسرائيل كنيسة المهد أو تقع جريمة قانا، فتمتلئ الصفحات الفنية بأخبار عن قيام الفنانة فلانة أو المنتج علان بالاستعداد لعمل فيلم كبير عن تلك الواقعة بشكل يفضح جرائم الصهاينة المتكررة، ثم لا تفارق تلك الأفلام صفحات الصحف إلى أرض الواقع أبداً، لذلك أستطيع أن أقول عن تجربة شخصية بعد عدة مشاريع حاولت أن أقدمها لعدد من المنتجين إنني لا أعتقد أن هناك منتجاً مصرياً أو شركة إنتاج كبرى يمكن أن تتحمس لفيلم جاد يتعرض لقضية الصراع العربي الإسرائيلي بشكل يطرح أسئلة حقيقية حول أسباب تفوق إسرائيل على العرب وكيف يمكن أن تُهزم وهل هناك مستقبل حقيقي للسلام معها، ولن يتم السماح إلا بأفلام تستثمر حالة الغضب التي يعيشها الشارع المصري بعد كل جريمة إسرائيلية لتقديم إشباع لحظي ينتهي بمجرد الخروج من قاعة العرض، والزعم الذي يطرحه كل منتج لرفض أفكار الأفلام الجادة والمختلفة أن الناس فيها ما يكفيها من غم ولا ينقصها المزيد من النكد والحزن الذي يمكن أن تسببه أفلام "غامقة" أو "أفلام مهرجانات" طبقاً للتعبير السينمائي الذي يستخدم لوصم أي تجربة سينمائية مختلفة عن السائد.
بالطبع سيتغير هذا الرأي حين يتم تقديم فيلم جاد ومختلف يتمكن من التواصل مع الجمهور ويحقق نجاحا تجارياً يدفع المنتجين لإعادة النظر في طريقة تفكيرهم في التعامل مع الأفلام، وعندها فقط ستفتح دواليب المكاتب في شركات الإنتاج، ويُزاح التراب من على عشرات السيناريوهات التي دفنها المنتجون في مكاتبهم، منذ أن سيطر على السينما نوع واحد هو الكوميديا، وأصبحت السينما تدور في إطار عدد محدود من النجوم الشباب الذين لا يهتم أغلبهم بالتجديد والابتكار قدر اهتمامه بالحفاظ على السكة التي سبق وأن نجح بفضلها، ولعلي حين أقول هذا أظن أنني لن أجد من يتهمني بأنني كاتب محبط ينتقد السينما لأنه لا يحقق فيها نجاحاً، فبرغم أنني اكتسبت نجاحي السينمائي من الأفلام التي غلب عليها الطابع الكوميدي، إلا أنني أرى أن استسهال المنتجين للمكسب وظنهم أن الكوميديا هي السبيل الوحيد لتحقيقه هي أكبر آفة تعاني منها السينما المصرية، وهي التي تحرم الجمهور المصري من حقه في رؤية أعمال مختلفة تناقش أهم قضاياه ومن بينها قضية الصراع مع إسرائيل والعلاقة معها.
يستسهل كثير ممن يدركون هذا الواقع المؤسف الحديث عن مسئولية الدولة وأجهزتها في تقديم أعمال سينمائية مختلفة وجادة، لأن المنتج الخاص سيظل محكوماً بمنطق الربح وحده، ويتحدث هؤلاء في العادة من منطلق تقديرهم لتجربة الإنتاج السينمائي الحكومي في الستينات والتي قدمت عدداً من أهم الأفلام المصرية، لكنهم يغفلون رؤية الصورة الكاملة لتلك التجربة التي لم تكن مشرقة بالكامل، ويتناسون أن تعامل الدولة مع الرقابة بوصفها وسيلة ضغط على إسرائيل أو تنفيس لضغط الشارع، سيحكم إنتاجها لأي أعمال عن الصراع العربي الإسرائيلي، بدليل أنها لم تقم حتى اللحظة بإنتاج فيلم عن حرب أكتوبر وهو الانتصار الوحيد في تاريخ دولة 23 يوليو بكافة مراحلها، وبالتالي فهي لن تسمح بإنتاج أعمال تتناقض مع الرؤية الرسمية المبنية على مصالح غير خاضعة للرقابة الشعبية والمساءلة الحقيقية، لذلك فإن مناشدة أجهزة الدولة أن تتولى إنتاج أعمال جادة ومختلفة عن الصراع العربي الإسرائيلي أو أي قضية مهمة وحساسة، هو اعتماد متجدد على أسلحة فاسدة ثبت أن ضررها أكبر من نفعها، ولا أعتقد أن هناك أملاً في رؤية السينما المصرية وهي تصبح سلاحاً فاعلاً غير فاسد في قضية مثل الصراع العربي الإسرائيلي أو غيرها من القضايا الجادة إلا حين تسقط سلطة الرقابة بالكامل ويدرك المجتمع المصري أهمية حرية الفكر والتعبير والعقيدة والبحث العلمي من أجل تغيير واقعه وصناعة مستقبله، وحينها فقط سيكون لديه سينما حقيقية ومختلفة ومتنوعة وناجحة.
...
بعد أن قرأت:
قمت بتقديم نسخة أولية من هذه المادة التي نشرتها على حلقات، ضمن ورقة شاركت بها في فعاليات مؤتمر أقامته كلية الاقتصاد والعلوم السياسية عام 2003 عن الصراع العربي الإسرائيلي، وقد اعتمدت فيها على مادة كنت قد نشرتها في مجلة (المصور) عام 1999 بالإضافة إلى شهادات وقراءات قمت بها خصيصاً من أجل الورقة، وبرغم أن الورقة التي شاركت بها لم تقم بتغطية أعمال ظهرت لاحقاً مثل فيلم (السفارة في العمارة) لعمرو عرفة، وفيلمي (أولاد العم) و(الممر) لشريف عرفة، إلا أنني مع الأسف أظن أن ما قدمته الورقة ينطبق على هذه الأعمال وعلى الواقع السينمائي المستمر حتى هذه اللحظة، وسأترك لك الحكم النهائي.