الأميركي الأخير على وجه الأرض
تُراقص آلاف الأرواح أشجار محمية باين ريدج (محمية تقع في ولاية داكوتا الجنوبية الأميركية)، وتبدو رقصة الأرواح هذه للناظرين كما لو كانت ريحاً تعصف بأوراق شجرة عمرها يزيد عن القرنين.
يقف "هانسكا" غير بعيد عن الجبال السوداء، يشعر كما لو كان قد أرسى سفنه على سطح قمّة العالم. كان يحسّ بكثير من الامتنان كونه لا يزال على قيد الحياة. باستطاعته أن يتحدث لغته الأم ويطلق العنان لشعره الحريري الطويل ليداعبه نسيم الهواء بلطف، باستطاعته أن يفعل أشياء عديدة، كانت منذ عقود من الزمن أكثر الأحلام جموحاً بالنسبة لأجداده. لكن، كلّ هذه الأشياء فقدت جاذبيتها ولمعانها المميّز مع مرور الوقت. لم يستطع شعب لاكوتا الحفاظ على مكوّنات عديدة من نمط حياة أسلافهم، خاصة بعد مذبحة "الركبة الجريحة" التي أودت بحياة مئات من أفراد القبيلة.
من بين متغيّرات الحياة الكثيرة، أنّ "هانسكا" فقد مساحة شاسعة من أرضه في مزاد علني، وأنّ أُخته الصغرى "شانيا" انتقلت للعيش في المدينة رفقة زوجها، وأنه بات يسرف في الشرب، وهو يجلس وحيداً كلّ ليلة، محدقًا في شرارات النار المتطايرة.
أحيانًا، يقرأ الرسائل التي تبعثها إليه شقيقته، تلمس كلماتها البريئة أعماق فؤاده المكلوم، ويجد فيها قدرًا سخيًا من المواساة. هو وحيد الآن، حتى الماشية التي وعد والده أن يعتني بها من بعده، تمّت مصادرتها من طرف الدولة بعد أن عجز عن سدّ ديونه. تكاد الوحدة أن تُذهب عنه ما تبقى له من توازن العقل، وحدها رسائل أخته تبقيه على قيد الوجود، وتروي فيه بذرة الرغبة في العيش، على أمل أن تصبح شجرة مترامية الأطراف في يوم ما.
"أتمنى أن تكون في أحسن حال، أخي العزيز! لقد قضيت وقتًا ممتعًا في واشنطن رفقة الأصدقاء، ولكم تمنيت لو كنتَ بيننا". يقرأ، ويغالب ابتسامة تكاد تسطو على ملامحه الجادة كلما جاءته رسالة منها. بوسعها مراسلته على الهاتف المحمول، ولكنها تفضّل الطريقة التقليدية. يجلس هِرُّ العائلة الوديع، أبولو، كطفل مؤدب ينتظر وجبة العشاء، "أبولو" هو الآخر يحن لأيام خلت، رغم أنه لا يملك كلمات ليعبّر عن هذا الحنين، يحفظ بعينيه العسليتين كلّ ركن من أركان المحمية، ووجوهاً كثيرة من عائلة كادوكا التي ودّعها قبل سنوات قليلة.
مفهوم الحدود و"سيادة الدولة" فكرتان دخيلتان تستبعدان كونية التجربة الإنسانية
الحرية هي تهويدة فولكلورية معادية للقيم الأميركية، تمامًا مثل قضاء عطلة نهاية الأسبوع في المنزل، أو حلّ النزاعات بطرق دبلوماسية غير عنيفة، أو عدم حيازة مسدس أو بندقية. ففي عام 1886، أعلن الصحافي هنري جرادي عن "ولادة جنوبٍ جديد" بنفس قوانينه العتيقة للحياة والموت، حيث البياض سلاح للاعتداء والسواد لعنة أبدية. هذا الجنوب الجديد هو أشياء كثيرة في آن واحد، هو الطفل غير الشرعي للديمقراطية، ومكان تكون فيه الأرض واليد العاملة أرخص من الخمر والجنس. هذه الأرض لا تدين بشيء للمستوطن، ومع ذلك، فهو يقف، وبكلّ جرأة على أرض مقدّسة دون أن يأبه لقداستها، يسير في طريق شهد نزوح الملايين من السكان الأصليين دون أدنى اكتراث.
قاوم هانسكا فكرة الانتقال إلى تكساس، لكن أصدقاءه الذين خاضوا تجربة العيش جنوب البلاد أصبحوا يشجعونه على ترك المحمية بشكلٍ نهائي والانتقال إلى حيث الأراضي الخصبة الصالحة للزراعة.
نزوح السكان الأصليين قد امتص الروح من الأرض، لهذا السبب نرى بلدانا ودولًا بدلا من الأوطان، ومدنًا مأهولة، لكنها فارغة حتى النخاع وبلا حياة، يتردّد في أرجاءها صدى الصمت المقفر للخراب. مفهوم الحدود و"سيادة الدولة" فكرتان دخيلتان تستبعدان كونية التجربة الإنسانية.
لا يعرف هانسكا أي الخيارين أصح؛ الهجرة إلى المدينة أم البقاء في المحمية. ربما ليس هناك خيار صحيح، وربما لن تمنحه الحياة حق الاختيار من الآن فصاعدًا. سيرحل الجميع، الواحد تلو الآخر، الأسرة تلو الأسرة، وسيأخذ كلّ منهم ماشيته وأملاكه المحدودة إلى مدن مختلطة، حيث حضارة الرجل الأبيض وسيادة قانونه على نواميس الطبيعة. حينها سيجد نفسه مجبرًا على الرحيل، حتى صغيرته "شانيا"، فضلت ترك المحمية لارتياد الجامعة، وقرّرت أن تعيش في واشنطن حيث أقيمت أنصاب تذكارية لأشخاص كانوا يمارسون صيد أسلافهم بهدف القتل كهواية.
أقيمت أنصاب تذكارية لأشخاص كانوا يمارسون صيد الهنود الحمر بهدف القتل كهواية
الهر أبولو هو الآخر يشعر بالكثير من القلق حيال "شانيا"؛ لقد لاحظ عليها تغيّرًا جليًا خلال آخر زيارة لها لمحمية باين ريدج، أصبحت أكثر نحافة، ولم تعد تقضي الكثير من الوقت معه كما كانت تفعل في الأيام الخوالي. باتت تقضي معظم أوقاتها منخرطة في أحاديث طويلة ودردشات ليلية تزعج أبولو. حتى أصدقاؤه القدامى تغيّروا كثيرًا، بات "أبولو" يستشعر معاناة "هانسكا" ويتقاسم معه ليالي من السمر والأرق.
مثل غيره من الأميركيين القدماء، كان هانسكا ينتمي للأرض دون أن يملكها، هو المخلوق غير المرئي والموجود بعيدًا عن لعنة الحداثة على الدوام، قريبًا بما يكفي من الجذور والأصل. يغمض عينيه أحيانًا مستسلمًا للحزن الذي يهدهده للنوم كرضيع متعب، يجد نفسه أسير كابوس مخيف يكون فيه وحيدًا، بل يكون الأميركي الأخير على وجه الكرة الأرضية، ويتساءل أحيانا: هل من الوارد أن يفقد أبناء شعب لاكوتا هويتهم؟ وماذا سيكون مصير الآخرين الذين لا يزالون متمسكين بعاداتهم وتقاليدهم؟ وكيف سيواجهون المحاولات لطمس ثقافتهم؟
يعجز دماغه عن التفكير تحت تأثير الكحول والتعب المفرط، ويغطّ في كابوس جديد يكون فيه هو الأميركيَّ الأخير…