الإقطاعية الحديثة.. إسرائيل نموذجًا
في العصورِ الوسطى، وحين كان النظامُ الإقطاعي سائدًا، كان السيّد يُسلّم قطعةً من الأرضِ إلى الفلاحين كي يعيشوا فيها تحت حمايته، مقابل خدمتهم وعملهم. هذا النظام لم يختفِ تمامًا في النظام الدولي الحالي، بل اتخذَ بعدًا أكثر شمولية، منتقلاً من الأفراد إلى الدول.
وفي عصرنا الحالي، نرى أمثلة للدول التابعة بطريقةٍ ما، مثل جزر فارو التابعة للدنمارك، وبورتوريكو التابعة للولايات المتحدة الأميركية، وجبل طارق التابعة لبريطانيا العظمى، بالإضافة إلى حالاتٍ خاصة مثل علاقة إمارة موناكو مع فرنسا والفاتيكان مع إيطاليا. وهذه الحالات، قد لا تكون تطبيقًا حرفيًّا للنظام الفيودالي، لكنّها تشترك في عنصرِ الحماية من الطرف الأقوى مقابل الولاء من الطرفِ الأضعف، مع غياب عنصر الإقطاع المادي.
وقد لا تُعدُّ الحالات سابقة الذكر تطبيقًا حرفيًا للنظام الفيودالي أو الإقطاعي، ويبقى أهم عامل مشترك بينها، هو توفير الحماية من الطرف الأقوى (السيّد) للطرف الأضعف، مقابل ولاء الأخير للأوّل، بينما يغيب أهم عنصر في النظام الإقطاعي عن كلّ هذه التجارب السابقة، ونعني الجانب الاقتصادي.
إلا أنّه في يومنا هذا يوجد مثال حي لدولةٍ ليست في الحقيقة سوى إقطاع مقدّم من السيّد إلى مجموعة دينيةٍ محدّدة، إذ يمكن اعتبار وعد بلفور سنة 1917 بمثابة عقد تسليم هذا الإقطاع (فلسطين) من السيّد (بريطانيا العظمى) إلى المجموعة الدينية (يهود العالم)، حيث وفّرت بريطانيا كلّ الظروف لقيامِ دولةٍ يهودية، بدءًا من فرض الانتداب على فلسطين من سنة 1920 إلى 1948، إلى تسهيلِ هجرةِ اليهود إلى فلسطين وتوطينهم وتسليحهم مقابل قمع العرب وطردهم ومحاصرتهم؛ أي إنّ بريطانيا سلّمت فلسطين إلى اليهود على شكلِ إقطاعٍ، مقابل ضمانهم لمصالح بريطانيا العظمى في المنطقة، وهو ما يفسّر وقوف فرنسا وبريطانيا جنبًا إلى جنب مع إسرائيل ضدّ مصر في العدوان الثلاثي.
إسرائيل مجرّد إقطاع منحه الغرب للصهاينة اليهود لضمان مصالح الغرب
لكن وبعد سنة 1956 وبداية ضعف القوى التقليدية (بريطانيا وفرنسا) وصعود قوى جديدة، أبرزها الولايات المتحدة الأميركية، انتقلت إقطاعية إسرائيل من كنف بريطانيا إلى كنف الولايات المتحدة، إذ أصبحت الأخيرة مسؤولة عن توفير الحماية لإسرائيل، بينما أصبحت هذه الأخيرة ممثلة المصالح الأميركية في منطقة الشرق الأوسط وخطّ الدفاع الأوّل لها.
كما تمثّل إسرائيل للغرب من وجهة نظري، امتدادًا للحرب الصليبية ومخلِّصة الأراضي المقدّسة من قبضةِ العرب المسلمين، ومن ثم إنهاء الصراع المسيحي الإسلامي واستبداله بصراعٍ عربي/ إسلامي يهودي. وبهذا يكون الغرب قد ضربَ عصفورين بحجرٍ واحد: الحجر الأوّل انتزعَ الأراضي المقدّسة للمسيحيين في الشرق من أيدي المسلمين، وهو ما يفسّر مقولة الجنرال البريطاني السير إدموند ألنبي "اليوم انتهت الحروب الصليبية"، وذلك بعد انتصاره على الجيش العثماني ودخوله إلى فلسطين. أما الحجر الثاني، فيتمثل في إنهاء الصراع الديني مع العرب والمسلمين وخلق عدو صوري وهو اليهود، حتى يتمكّن الغرب من التقرّب من العرب وزعمائهم قصد خداعهم واستغلالهم وفق مصالح الدول الغربية، وهو ما حدث بعد الحرب العالمية الأولى.
وحتى ما يقع اليوم في غزّة اليوم ومسارعة الولايات المتحدة الأميركية إلى نجدةِ إسرائيل، يؤكّد أنّ هذه الأخيرة ليست دولة، بل مجرّد إقطاع منحه الغرب لليهود لضمان مصالح الغرب في أغنى مناطق الأرض وأخصبها، وهي الشرق الأوسط.