الإنسان أعلى من سقف الوطن
مساءً، وأنا أتسكعُ في يومٍ ربيعي دافئ، واجهتني عبارة تلفتُ الانتباه، لا شكّ أنّ من كتبها مراهقون من أبناء الحيّ على حائطِ إحدى البنايات بخطٍّ أسود عريض. كانت بالأحرى صرخةً أو احتجاجاً: "لا نريد العيش في المغرب". وقفتُ لهنيهةٍ، أتأمّل في هذا التعبير النّاقم. وتساءلتُ بينما أمشي: أيّة ورطة هذه، أن يُكره المرء على العيشِ في مكانٍ أصبح مُطوّقاً به كالأغلال؟
لم تكن العبارة سطحية في نظري. لا هي بسيطة، ولا عابثة أو مبتذلة؛ بل تختصرُ شيئًا مُوجعاً، ألماً دفيناً في الأعماق، أعرفه جيّداً، وقد خبرنا فظاعته على مدى عشرين سنة الماضية، في مشاهد شبه يومية لمراهقين وشباب، كما لآباء ولأمهات مع أطفالهنّ أُجبروا بسبب انعدام الأمل في المستقبل على التخلّي عن العيش في بلدهم، فجسّدوا ملحمةَ التمرّد هذه فعليّاً بالهجرة غير الشرعية، مقامرين بحياتهم، إذ غالباً ما كان يلفظهم البحرُ جثثاً هامدة. لم يجدوا الوطن في الوطن، فذهبوا على أملِ العثور عليه في مكانٍ آخر.
من بين كلّ اللغات الحيّة، يمتلك مفهوم "الوطن" في اللّغةِ العربية مرونةً وفرديةً ودلالةً شخصية. أي بمعنى، حيثما حلّ المرء فثمّة وطنه. فبحسب (لسان العرب) أوطن المكان، أي حلَّ به. لا يشير هذا إلى مكانِ الولادة أو منزل الأم، أو مرقد الأجداد، وإنّما إلى الحركة المرتبطة بالترحال والسّفر الذي عرفته بيئة العرب الصحراوية القاسية، بحثاً عن الواحات الظليلة، عن الكلأ للماشية، وعن المياه. بذلك يصبح الوطن بحسب هذا التفسير أوطاناً متعدّدة.
لم يجدوا الوطن في الوطن، فذهبوا على أملِ العثور عليه في مكانٍ آخر
وبالرجوعِ إلى العبارةِ الضجرة: "لا نريد العيش في المغرب"، نقرأ رغبةً مستبدة في الارتحال والبحث عن التوطين في مكانٍ آخر. توطينٌ يوفّرُ بعض الرّاحة والاستقرار بعد أن ضاق المكان بأهله على سعته، يحقّقُ الخير والنّماء، والإحساس بالمواطنة الكريمة التي انعدمت في مسقط الرأس. ثمّة دلالة أخرى خفيّة تُلمسُ من العبارة، وهي أنّ الإنسان أسبق في أهميته على الوطن. فحياةُ المرءِ وسعادته أقدس من مكانِ مسقط الرأس، حيث اللغة الأم، والثقافة، والعقيدة. لذلك يترك الناس بلدانهم ويهاجرون؛ ليعيشوا في ظلّ ثقافةٍ أخرى غريبة، بنظمٍ وعقائد مختلفة كليّاً عمّا ألفوه. وتلك التضحية كلّها هي من أجل شيء واحد: أن يحققوا ذاتهم في حياةٍ تليق بهم. فالاغترابُ عن المكان واللغة والثقافة ليس أكثر وحشة من التعاسة والفقر، كما الحرمان من الحقّ في الحياةِ بكرامةٍ.
أعرف أشخاصاً تركوا بلدانهم بسبب الاستبداد أو الفقر والحرب. فأصبحوا مهاجرين أو لاجئين في بلدان أخرى من بلادِ الغرب. وحينما أتحدث إلى أحدهم أشعرُ أنّ المنفى عنده ليس المنفى الذي نعرف، بل هو مسقط الرأس الذي تركه خلف ظهره. حيث أجهضت الأحلام، وذبلت زهرة العمر في التبطّل وانعدام المعنى. ليست الحياة سهلةً أبداً في أيّ مكانٍ من هذا العالم، وليست بلاد الآخرين جنّة على الإطلاق؛ لكنّ أهم شيء أنّ الفرد قد استعاد من جديد كرامته وحريّته وصار مستقبله أضمن، وطريقه أوضح وآمَنَ، وأنّ جهده يثمر، رغم كلّ تلك الظروف الصعبة التي تطرحها الإقامة في بلدٍ غريب، بل إنّه قد وجد التشجيع الكافي ليكون في أفضل نسخةٍ عن نفسه. لقد وضع القدم وأوطن المكان فوجد الوطن. مع الوقت، أو حتى في غيابِ عامل الزّمن، غالباً ما يخفت الحنين إلى مكانِ الهُويّة والأصل. أسأل صديقي الذي هاجر قبل سنوات إلى بلدٍ آخر، فيردُّ: "وطني هو بلجيكا، ليس لي حنين إلى أحد أو بلد، سوى إلى أمّي". وتفاجئني صديقتي التي بدا لي دائماً أنّها مرتبطة بشمس بلدها وهوائه وناسه، وقد هاجرت إلى فرنسا مكرهةً قبل خمسة أشهر بسبب سوء الأوضاع: "استيقظتُ فوجدت (ليون) مدينتي، أطلُّ من نافذتي كل صباح فأقول هنا كان يجب أن أكون قبل عشر سنوات، أو عشرين سنة".
إنّ الإنسان هو الوطن، وحين يضيع الإنسان يضيع الوطن
إنّ الوطن قبل الإنسان، هو مجرّد اختراع سياسي ودعاية حديثة. ما قيمة الوطن إذن، من دون الإنسان؟ إنّ الإنسان هو الوطن، وحين يضيع الإنسان يضيع الوطن، إذ يصبح هذا الأخير مجرّد تضاريس جغرافية مُحاطة بحدودٍ كقضبانِ السجن. يموتُ الحنين إلى المكان الأوّل شيئاً فشيئاً، أو دفعةً واحدة، وقد لا يظلُّ منه أحياناً سوى ما تُضيئه الذاكرة، إذ تغذو الذاكرة للمهاجر هي كلِّ الوطن الذي يمكن العودة إليه، في الوقت الذي تنعدم فيه الرغبة مطلقاً في الرجوع إلى المكان الأول. إنّه نوع من البرود الذي لا يُعاتب عليه المهاجر، بقدر ما يُعاتب عليه من أضاع الوطن وجعله مكاناً لا يُحتمل.
يحكي الشاعر العراقي الرّاحل سعدي يوسف مبتهجاً بذاك البرود، وفي جرأةٍ خارجة عن التلقين المدرسي لمعنى الوطن: "أعتقد أنّ لحظة برودة الدم تلك، كانت لحظة مباركة. لقد حرّرتُ نفسي من نفسي الأمارة بما لا يليق. في تلك اللحظة إيّاها، أخذ المنفى يبتعد. لم أعتبر نفسي أني منفيٌّ. أنا، مذ ذاك، مقيم أنّى حللتُ. هوائي ومائي هنا، لا في مكان آخر. أنا أعملُ وأغتذي هنا، لا في مكان آخر. كذلك الأمر مع روحي وفنّي. مادّتي الخام هنا، كذلك مختبري".
لقد وطّن الشاعر حياته في المكان الذي قادته إليه قدماه هرباً من البؤس واليأس. إنّه يستظلُّ في واحته، ليعيشَ يومه وفنّه. يجسّد سعدي هنا، صياغة غير مؤدلجة لمفهومِ الوطن، قريبةً من القاموس العربي، حيث المرونة، والحقيقة، حقيقة أنّ الإنسان أهم قيمة، وأعلى من سقفِ الوطن.