الاستبداد وتبديد الإنسان
كما هو معلوم، لم يقم النظام السوري بالعمل على صهر الشرائح الاجتماعية في سورية في بوتقة وطنية جامعة تستوعب هذه الشرائح على اختلافها، ويحافظ بالتالي، على نشاطها ضمن الانتماء الوطني، بل قام بالعمل على اختزال سورية في كيانه الخاص عبر ممارسة القهر وتوّسل الإخضاع، وفرض هيمنة الطائفة التي ينتمي إليها.
وعلى خلاف الدول المتقدمة التي تعبئ طاقاتها للوصول إلى ما تطمح إليه شعوبها، نجد في سورية أنّ النظام فرّغ القانون والمؤسسات من مضمونهما وقوتهما الملزمة، وعبّأ الطاقات لفرض السيطرة والتحكّم بكلّ مفاصل الحياة في سورية، مبدّداً بذلك المؤسسات والأفراد في سبيل تأبيد وجوده في السلطة، ووصل الأمر لدرجة استحضار السوريين لجبروته في اللاوعي بجعل العقوبة حتمية كالقدر في حال النيل من هيبته.
نزعة السيطرة عند النظام لا تعرف حدوداً مقنّنة، ولا يتحمل أن يكون هناك شيء خارج إرادته، لا مؤسسات، ولا أفراد، ولا أفكار. تطلّب هذا قوة مفرطة من الأجهزة الأمنية التي أُسست لهذا الغرض، و"تجاوزت حدّ الحاجة إلى التحكم"، كما تحولت إلى أداة للسيطرة على كلّ شيء بالقوة دون اعتبار للألم الذي تسبّبه. أي أنها لا تخضع لضابط قانوني/ مؤسسي يتحكم بتصرفاتها، فالمرجعية التي يتم الاستناد إليها في هذه الحالة هي رأس النظام والدائرة الضيقة المحيطة به. وبذلك انحصر دور الأجهزة الأمنية وشريحة واسعة من الشبيحة في تكريس سطوته وسيطرته.
نزعة السيطرة عند النظام لا تعرف حدوداً مقنّنة
ترافق العنف المفرط مع دعاية إعلامية مضلّلة صوّرت الواقع كما يريد النظام. "فالنظام ليس مهتماً بتصديق الناس دعايته، بمقدار ما هو مهتمّ بأن يتظاهر الناس بتصديقها، فكانت أهداف دعاية النظام:
- تصديق الكذب حتى لو كان تصديقاً مفتعلاً، فهو علامة ولاء وعلامة خوف من النظام.
- هدف الدعاية ليس الحقيقة، بل أن تختلط على الناس الحقيقة.
- ليس الهدف من الكذب إقناع الناس بصحة الرواية، بل جعلهم يشككون في روايات الآخرين".
يمكن القول بأنّ الادعاء الذي يصف رأس النظام بأنه لعبة بيد حلفائه، أو أنه أبله، أو مجنون، "هو ادعاء ساذج. إنه سيد الخداع". وبنرجسيته المفرطة التي نفت وجود الآخر السوري، "والتي تمثلت بالأنا المثالي المنفلت من كل قانون"، لم تعد هناك ضوابط تحد من سطوته وكبريائه وتبديده لكرامة السوريين على مختلف الصعد. فلا عبرة لألم السوريين، ولا عبرة لكرههم لما يجري، فالمهم عنده هو الطاعة والولاء حتى لو كان نفاقاً. وهذا ما يذكرنا بمقولة الطاغية الروماني كاليغولا: "ليكرهوا شرط أن يطيعوا".
في ظلّ غياب فاعلية قانون تنظيم السلطة في سورية منذ استيلاء البعث على السلطة، استتب الأمر للنظام الذي يمارس سلطانه بناءً على مرجعية شخصية، ضارباً عرض الحائط بكل القوانين التي تنظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم كما في كلّ الدول التي تحترم نفسها. فبالإضافة لأجهزة الأمن التي كرّست نشاطاتها في ضبط سلوك السوريين والتحكم بهم، اعتمد النظام على آليات نفسية سلوكية استطاع من خلالها ليس فقط ضبط السلوك الخارجي للسوريين، بل ضبط الذات والنوايا. فشكلت تلك الآليات النفسية مع عنف الأجهزة الأمنية نظاماً محكماً للضبط والإخضاع، وصولاً إلى استمتاع كثير من السوريين بالألم الذي يسبّبه لهم.
اعتمد النظام السوري منذ توليه السلطة على آلية الربط بين العقاب الشديد جداً وبين أي سلوك ينال من سلطته، أي أنّ العقوبة لكلّ من يتجرّأ على القيام بفعل يهدّد سلطته هي حتمية، ولا يمكن الإفلات منها، حتى لو كانت بحق أقرب الناس إليه. وهذا ما لاحظناه من سلوك حافظ الأسد مع أصدقائه المقربين، وما رأيناه من عنف لا مثيل له ضد السوريين الثائرين على نظام بشار الأسد. في كتابه "المراقبة والعقاب"، قدّم الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو تفصيلاً عن العقوبات التي ينزلها المستبد بالجناة. إنها ليست مجرّد عقوبة، بل تفنّن بالقتل وتبديد للكرامة والذات، وافتراس للمجتمع بما فيه. وسجن صيدنايا أوضح مثال على ذلك. ألا يدعو ذلك لاستحضار جبروته وإجرامه في عقلنا الباطن؟
صحيح أنّ الثورة السورية حطمت شرفات هذا القصر، إلا أنها لم تهدمه، بسبب التعقيد الشديد في أساساته
في كتابها الشهير "بجعات برية"، تقول يونغ تشانغ: كنت ألوم نفسي تلقائياً على أي نوازع تتعارض مع توجهات ماو تسي تونغ. كانت مثل هذه المشاعر في الحقيقة تخيفني، ولم يكن وارداً أن أناقشها مع أحد، بدلاً من ذلك حاولت كبتها. لقد أجبرنا النظام على مدى عقود أن نرتدع ذاتياً، وأن نضبط سلوكنا بأنفسنا عندما نجد أنّ سلوكنا ذو كلفة كارثية لنا ولأقراننا. إلا أنّ استمرار النظام بهذا السلوك وما تبعه من زيادة الرغبة في التغيير لدى السوريين بتأثير ثورات الربيع العربي، أدى إلى انفجار الحياة السورية في عام 2011 وكسر السوريين لحاجز الخوف، عندها، أدرك السوريون كلفة سلوكهم هذا، إلا أنهم ورغم ذلك، واصلوا المسير واستطاعوا إبداء مقاومة أسطورية كلفتهم مئات الآلاف من الشهداء والمعتقلين.
اختار النظام ألا يتغيّر، ودخل بحرب مفتوحة مع الشعب السوري، فكان سلوكه عنيفاً لأبعد الحدود، وهو ما ساعد على تعميم الردع الذاتي لباقي السوريين تجاه سلطة النظام، ورموزه، وأدواته التي تكتسب "قوة الإخضاع والتهديد"، فلا مفرّ من سيفه، والحضور الكلي لسطوته، إلا بالتملق والنفاق له دفعاً للشبهة وطمعاً بالسلامة. كلّ ذلك يقوم على حالات من الترويع والعقوبات المتناهية في العنف، عبر ما يسمّى "ممارسات التنفير" (التهميش، التعذيب) التي تتولاها الأجهزة الأمنية للنظام. وبالتالي، كان هذا النظام أقوى بكثير مما كنّا نظن، صحيح أنّ الثورة السورية حطمت شرفات هذا القصر، إلا أنها لم تهدمه، بسبب التعقيد الشديد في أساساته.
يمكن القول بأنّ السوريين في مناطق سيطرة النظام استطاع النظام إيصالهم لمرحلة ما يُعرف "باستجابة العجز المتعلم"، وتعني غياب أيّ ردّة فعل تجاه سلوكيات النظام المنفرة، هي حالة من الاستسلام التام. وهذه الحالة من أشدّ الحالات تبديداً للكيان الإنساني. ولعل هذا ما يفسّر لنا سكوت السوريين في تلك المناطق على الرغم من الأوضاع المزرية فيها.
أما السوريون الذين خرجوا ضد النظام، فما زالوا يعانون من الآثار الثقافية والنفسية لترسانة الأسد الاستبدادية، فلا يمكن إخفاء مظاهر الاستبداد على مختلف المستويات السياسية والعسكرية والمدنية. وتبقى حالة الاعتقال والتعذيب أشدّ حالات تبديد كرامة الإنسان كارثية، فلم يستقم بناء للاستبداد إلا بها.