الانتصار التونسي على "الرجل الأبيض"
لم نكن نحن العرب من ابتدع التفرقة العنصرية المعاصرة التي نراها اليوم في كلّ مكان، حيث يتساوى البشر عندنا في كلّ شيء ويتمايزون عن بعض بما حقّقوا من بطولات فقط، لذلك يحق لنا الفخر بأسلافنا على اختلاف ألوانهم وأعراقهم، وتجدنا نبحث عن ذلك الفخر، حتى في أصغر انتصاراتنا.
كرة القدم مثلاً أنصفت كلّ ما فينا، فلم نكد ننتهي من فخرنا بالمنجز السعودي التاريخي حين فاز على منتخب الأرجنتين ضمن مونديال كأس العالم 2022، والمقام في دولة قطر، حتى لاح لنا نصر المنتخب التونسي على نظيره الفرنسي، هو نصر حطّم هزائمنا وجدّد أملنا في التمرّد على الحلم.
خلال أيام من انتظار يوم المقابلة، كان الإعلام الفرنسي يتناوب على السخرية من رهان المباراة، لم يكن يحق للكثيرين أن يحلموا بانتصار تونسي مقنع على بطل العالم حتى إشعار آخر من الفيفا.
أسماء اللاعبين وفرقهم المتطوّرة والعصرية وقيمتهم السوقية كانت كلها محدّدة في التكهن بنتيجة المباراة من خارج دوائر الأمل والعزيمة والتحدّي.
الجمهور العربي نفسه لم يكن يصدّق وسوسة عروبته، بأنّ وهم الرجل الأبيض زائل، وأنّ تجدّد التمرّد عليه جائز منذ معركة ديان بيان فو، بين القوات الفيتنامية والجيش الفرنسي الذي كان مدعومًا من قوات من حلف الناتو، وفوق كلّ أرض منصفة.
انتصرت تونس على فرنسا وكان نصرها أكبر من الانتصار في اللعبة، وهزيمة أخرى لمن يزعجه أن تكون تونس حرة
أما ما وراء لعبة الأحد عشر لاعباً والكرة الجلدية، فتختفي نظرة فرنسا لمستعمراتها السابقة، تلك الضعيفة المتناحرة التي لا يحق لها أن تتمرّد على الإرث الاستعماري، والذي لم يشكّل جلاؤه العسكري إلا خطوة منقوصة من جلاء هووي حقيقي لم يأت بعد. فطالما اعتبرت المستعمرات السابقة نفسها ضعيفة أمام فرنسا سياسيا واقتصاديا وثقافيا، ولم يكن الإذعان الكروي بعيداً عن كلّ هذا.
خلال السنوات الأخيرة وجد اليمين المتطرف في فرنسا في قضايا دحر المهاجرين والتصدّي للهجرة غير الشرعية بيئة خصبة لاستمالة عديد الناخبين، حتى أنّ الانتخابات الفرنسية الأخيرة، أثبتت ذلك وأصبحت تنذر بالخطر المحدق بمن لم يتسنّ لهم تسوية وضعيتهم القانونية بعد أمام حملات ممنهجة من التشويه، وصلت إلى حدّ العنصرية والمطالبة بطردهم من التراب الفرنسي.
لقد صار اليمين المتطرف في فرنسا يضيق ذرعاً باختلاف الأعراق المستوطنة لفرنسا، ويدعو إلى عودة الرجل الأبيض إلى مكانته القديمة تلك التي لا يقربها الهمج والبربر، غير أنّ العولمة استطاعت أن تحدث الأفاعيل في البنية العرقية للشعوب، وأهمها فرنسا، فصار منتخبها الوطني خليطا من الأفارقة والصرب والعرب، فعن أي رجل أبيض يبحث التعالي الفرنسي المغتر بالفرنسيين الوظيفيين في منتخبه، والقادمين من جنسيات أخرى.
أعظم ما في مباراة تونس وفرنسا، كان نزول الراية الفلسطينية إلى أرضية الملعب فوق سواعد شاب تونسي يلبس "الشاشية"
الأجدر هو تجاوز الأمر وتقبّل الفسيفساء العرقية التي لا تنضبط للحدود الإقليمية، ولا يمكن بأي طريقة منعها من التمدّد في أي مجتمع، حتى ولو بلغ الأمر تحصينه بإرث استعماري متعالٍ على الشعوب كما تفعل فرنسا، ففي النهاية انتصرت تونس، حتى في مجرّد مباراة كرة قدم، وكان نصرها أكبر من الانتصار في اللعبة، وهزيمة أخرى لمن يزعجه أن تكون تونس حرة.
وأخيرا، إنّ أعظم ما في المباراة كان نزول الراية الفلسطينية إلى أرضية الملعب فوق سواعد شاب تونسي يلبس "الشاشية" فكان انتصار التونسيين لفلسطين أهم من أي نصر آخر عرفوه من قبل.
ومازالت كرة القدم تدهشنا برسائلها الإنسانية التي ترد تباعاً من فوق الأرض العربية، شاحذة فينا عزائم أعياها الخذلان.