البطء كفعل تمرّد.. أو فن العيش المنشود
لكي تستمتع بالحياة أبطئ الزمن قليلًا. لتستلذّ بطعامك وشرابك لا تتعجل إنهاءه. عش اللحظة، بوابة الأبدية، دون أن تنظر إلى ساعتك، الغ من عقلك تكتكاتها. احشد حواسك جميعها للاستمتاع بوجبتك. وأنت تقرأ، لا تتعجل نهاية الصفحة. لا يمكن للقراءة أن تكون ممتعة إلا في لذة البطء. وحين تمرر عينيك على الجُمل والكلمات، لا تقل عليّ أن أنهي هذا الكتاب، بل اسمح لنفسك أن تعيش بين دفتيه. إن لم يكن يستحق العيش اغلقه، فلا فائدة ترجى منه.
مرّن ذهنك على البطء. ليس البطء مرادفاً للكسل كما تحاول أن تقنعنا به حياة الاستهلاك وهي تدفعنا إلى سباق تحرّكه تروسها الخفية مع الزمن، إنما البطء في الحقيقة هو كل ما أنت بحاجة إليه لتعيش حياتك على الوجه الأمثل. البطء هو الآلة الدفاعية للتمرد، وهو فن العيش المنشود.
يعبّر عالم الاجتماع والناشط الإيطالي كارلو بيتريني بهذه الكلمات: "إن السعي وراء البطء، والذي يبدأ كتمرد بسيط ضد إفقار الذوق في حياتنا، يجعل من الممكن إعادة اكتشاف الذوق". الأكيد أنه مع السرعة تنعدم سعادة الاكتشاف هذه. إنها تغيّبك كليّا، وتُفلت من بين يديك اللحظة. تغيّبك إلى حد لا تستطيع معه أن تكون أنت، حتى يكون لك ذوق بالأساس. فقط تغذو بشكل مؤسف هذا الجميع الخاضع للذوق الفج المعمم السائد والممتثل للإيقاع نفسه وبالوتيرة نفسها.
إن السعي وراء البطء، والذي يبدأ كتمرد بسيط ضد إفقار الذوق في حياتنا، يجعل من الممكن إعادة اكتشاف الذوق
لذلك، فالسرعة استلاب وسلب، بينما البطء وجود وإيجاب. البطء حيوية، بينما السرعة موت وضمور وامّحاء. حينما نلغي سباقنا مع الزمن، ولا نضطر للحاق بالآخرين، أو مشاركتهم سباقهم المحموم نتكشّف لذاتنا، نسترخي ونتأمّل ونستلذ. نشعر بوجودنا على نحو أكثر كثافة ووضوحا. عندها نستطيع بذلك أن نضاعف قوّة انتباهنا وإدراكنا.
في رواية "البطء" للكاتب المعروف ميلان كونديرا نقرأ هذه العبارة: "عندما تمرّ الأشياء بسرعة، لا يمكن لأحد أن يكون واثقا من شيء ما، من أيّ شيء، حتى من ذاته نفسها". إن سحر البطء يكمن هنا، في استعادة الذات. ولعنة السرعة على النقيض من ذلك، قوّة صفعتها قادرة على أن تذهلنا عن أنفسنا. وبالنظر إلى هذا العصر المهووس بالسرعة، عصر الحداثة السائلة كما يسميه زيجمونت باومان لم نعد واثقين من شيء. ولم نعد ممسكين بأي شيء. لقد تضاعفت شكوكنا أيضا حيال كل شيء تقريبا. إنها مأساة ملهاة فلسفة الاستهلاك التي ولدت من رحمها السرعة، حيث تجبرنا على أن نضع أنفسنا في مضمار السباق مع الزمن الذي لن تفضي نهايته سوى إلى انتصار العبث على المعنى.
حتى الماضي القريب، كان أجدادنا قادرين على أن يمتلكوا المعنى باسترخائهم خارج الزمن الفيزيائي المتقطع ككتل صلبة، من أجل الاستماع بشكل متواصل إلى مطولات أم كلثوم. كان الفنّ بطيئا وحيويا غامرا بالنشوة. قادرا على إطالة اللحظة؛ بينما تلحن الموسيقى اليوم وتكتب وتعزف وتؤدى على الإيقاع السريع المنقبض، والذي يحتمي بدرع التصوير ليخفي أحيانا كثيرة نواقصه الموسيقية ورخاوة كلماته الفجة.
يعتقد خبراء الدماغ أن ثمة وضعيتين للتفكير: التفكير السريع باعتباره خطّيا تحليليا منطقيا، والتفكير البطيء كنشاط حدسي وملغز وإبداعي. أو ما عبّر عنه الفيلسوف الألماني هيدغر بمفهومي العقل الحاسب والعقل المتأمل، منتصرا بالقطع للعقل التأملي الإبداعي الذي لا يولد إلا في شرط البطء. وبذلك يمكننا فهم الانحدار الذي عرفته الموسيقى وبعض الفنون في انزياحها عن الإبداع المتأني لصالح عصر الرقمنة والاستهلاك السريع؛ وفهم التحوّل والتعقيد الذي تعرفه حياتنا.
نعد السنوات التي تمرُّ خارج انتباهنا، كما لو كنّا أمام عدّاد سريع. كل شيء نلصق به الأرقام. نتطلع إلى آخر الشهر ونحن في بدايته، نسأل عن الخطوة التالية قبل أن نتم الخطوة العالقة في الهواء، نتذمّر من الوقت الذي لا يكفي لفعل شيء يجب فعله، فيستبد بنا قلق دائم. لأننا في هوس السرعة لا نستطيع أن نلحق بأهم شيء: حياتنا ذاتها. وكأنها لا تزال في مكان آخر أبعد من هذه اللحظة. يفوتنا التفكير بحكمة في أن حياتنا كانت طوال الوقت بين أيدينا، بينما الموت هو ما قد ينتظرنا وراء هذه اللحظة. لا نفكّر عادة كما ينبغي أن نفكّر. يقول ديك شاربلز: "الموت هو مجرد طريقة طبيعية لإخبارك أن تبطئ".