البناء الهندسي للمؤسسات التعليمية وعلاقته بالأداء التعليمي
تطوّر البناء الهندسي للمؤسسات التعليمية عبر العصور مع تزايد الاهتمام بمسائل التعليم وتنامي حاجات طلبة العلم، فمن دور العبادة إلى الكتاتيب فالمدارس والمعاهد والجامعات ومراكز البحث، تنوّعت مؤسسات التعليم عبر مختلف الحضارات قبل أن تأخذ شكلاً تخصّصياً ومستقلاً عن أماكن العبادة. كما شهدت هذه المؤسسات تطوّراً نوعياً من حيث متطلبات البناء الهندسي الخاص بالمرفق التعليمي، فقد فرضت الحاجة المتنامية لتنمية البحث والتعليم إضافة العديد من المباني والهياكل والمساحات والمخابر والحجرات والمرافق الضرورية لاستكمال أهداف العملية التعليمية، وتنمية الحسّ التجريبي والقدرة على الإبداع لدى طلاب العلم.
واليوم تشهد المؤسسات التعليمية في العالم المتقدّم وبعض الدول العربية الرائدة تعليمياً وثبة كبيرة في مجال تعزيز البنية التحتية والهندسة المعمارية البديعة للمؤسسات التعليمية، بما يستجيب لمتطلبات العصر التكنولوجي ويسهم في فعالية الأداء البيداغوجي والبحثي، فنشاهد كيف أصبحت المدارس مزوّدة بأحدث التكنولوجيات التعليمية الملهمة للخيال العلمي، إضافة إلى تقنيات الواقع المعزّز و"الهالوغرام" التي تساعد المعلم على شرح النظريات الهندسية والميكانيكية والمعمارية، وعمليات التشريح وتصوير الظواهر العلمية والمخططات والخرائط الجغرافية التي أصبحت تدرّس بأساليب إبداعية تفاعلية. وإلى جانب مخابر الفيزياء والعلوم والهندسة الكهربائية والميكانيكية والمعمارية، أصبحت المؤسسات التعليمية مزودة بمخابر خاصة لتعليم اللغات وتحسين الأداء الصوتي.
ولا شك أنّ القراءة لها أهميةٌ جُلَّى في المنظومة التعليمية الرائدة، لذا فإنّ المكتبات تعتبر ركناً أساسياً من البناء الهندسي للمؤسسة التعليمية، وهذه المكتبة ليست لأجل إعارة الكتب لمن أراد المطالعة الطوعية فحسب، بل هي جزء أصيل من العملية التعليمية، إذ تُخصّص حصص للمطالعة وتلخيص الكتب وتنمية حسّ القراءة لدى المتعلّم وتنظيم المناقشات والمنافسات العلمية، كلّ ذلك يجرى وفق تصوّر بيداغوجي هادف ومدروس.
إنّ الهندسة المعمارية لمؤسساتنا التعليمية لم تشهد تطويراً على مستوى هياكلها وحجراتها ومرافقها
كما أنّ مادة الرياضة لها أهمية بالغة في المنهاج التعليمي وتحظى برعاية بالغة من الناحية البيداغوجية واللوجستية والمادية، فتخصّص لها المرافق الضرورية من ملاعب ووسائل تساهم في تغذية الجانب الجسمي والذهني والأخلاقي للمتعلّم، وتزويده بالمهارات والمفاهيم الرياضية، نظرياً وتطبيقياً.
كما أنّ التعليم باللعب يعتبر من أهم البيداغوجيات الأساسية في الطور الابتدائي، ولهذا تتوّفر المدرسة الابتدائية ودور الحضانة على فضاءات خاصة بالألعاب التربوية وممارسة المسرح ومختلف الفنون الهادفة، حتى لا يشعر المتعلم بالملل، ويتوق للبقاء في مؤسسته التعليمية. وقد صرّح أحد المديرين في مدارس السويد أنّ من بين العقوبات التي تسلطها الإدارة على التلميذ المشاغب هي: حرمانه من دخول المدرسة ليوم أو يومين!
ونشير في هذا السياق، وفقا لما تقرّره الأدبيات الحديثة للفكر التنظيمي؛ إلى أنّ مستوى المنظمة من حيث البناء والأداء يجب أن يظل متفوّقاً على مستوى التطوّر في محيطها الاجتماعي والاقتصادي، وإلا أصبحت عديمة الفعالية، وبناء عليه، فإن مستوى التطوّر داخل المؤسسة التعليمية يجب أن يكون متفوّقاً على ما يوجد في محيطها من تحديث لكافة أنماط الحياة، وإلا فإنّ المؤسسة التعليمية حينئذ ستتحوّل إلى بيئة محبطة وقاتلة للإبداع، أي سوف يشعر المتعلّم فيها بالاغتراب عن محيطه الثقافي والتكنولوجي.
يجب أن تكون المؤسسة التعليمية ملهمة للخيال العلمي للمتعلّم، ومحفّزة للأستاذ على العطاء والتحسين المستمر
إنّ الهندسة المعمارية لمؤسساتنا التعليمية لم تشهد تطويراً على مستوى هياكلها وحجراتها ومرافقها، على غرار مؤسسات التعليم في الدول الرائدة، فلا تزال وفق النمط التقليدي، وهي مهيّأة بطريقة تنسجم مع المقاربة القائمة على التلقين (مجموعة حجرات مملوءة بالكراسي والطاولات مع سبورة ومكتب) ولا تشجع على التعليم البنائي وتنمية مواهب المتعلمين ومداركهم الإبداعية، فهي لم تشهد أي تطوير في بنيتها التحتية لتواكب النمط الحديث في البناء والهندسة، وأغلبها غير مزوّد ببنية تكنولوجية واتصالية متطوّرة تساعد على التعليم الإلكتروني التفاعلي، مع وجود فضاءات مفتوحة للبحث وتنمية المواهب، ومساحات خاصة لإجراء التجارب الميدانية، ومكتبات وهياكل رياضية وفق مقاييس الجودة، إضافة إلى المخابر والورشات والمعامل المساعدة على إجراء التطبيقات اللازمة في العلوم والهندسة المدنية والكهربائية والميكانيكية، ناهيك عن مخابر اللغات التي تساعد المتعلّم على النطق السليم ومحاكاة الأصوات وجودة الأداء اللغوي.
إنّ المؤسسة التعليمية يجب أن تكون ملهمة للخيال العلمي للمتعلّم، ومحفّزة للأستاذ على العطاء والتحسين المستمر، بما تتوّفر عليه من وسائل تعليمية حديثة، وبهندستها المعمارية المتميّزة التي تجعل منها بيئة تفاعلية، تساعد على تفتّق عبقرية المتعلم وتلهمه بالأفكار الإيجابية.