التجربة الجامايكية (4): بابا نويل
"أنا في حفلة عصابة في أول ساعة لي في جامايكا!"، لم يتسنَّ لي أن أفكر طويلاً في هذه الجملة إذ توافد عليّ أصدقاء مستر ونستون يسألونني عن اسمي ثم یعرضون عليّ شراء جميع أنواع وأصناف الحلوى! وعندما كنت أرفض شاكراً كانوا يسألونني من أين أنا وماذا أعمل ومتى جئت، كانوا لطیفين حقیقة؛ بمجرد ما أن أخبر أحدهم أني مقيم في كالیفورنيا، كان یقول لي إنه زارها أو يعرف أشخاصاً هناك.
أتت مجموعة أخرى من الشباب الأكبر سناً بعدما تناقلوا خبر أنني مقیم في أمیركا، وبدأ كل شاب من المجموعة الجدیدة یعرّفني باسمه أولاً، ثم الولایة التي سُجن فیها، والمدة التي قضاها في السجن قبل أن یرحّل إلى جامایكا، على الأقل ستة أشخاص عرّفوا عن أنفسهم بهذه الطريقة، وقتها خجلت من نفسي وعصرت ذاكرتي لأجد جریمة معتبرة اقترفتها، لكي أباهي بها فلم أجد، لكنني تذكرت أنني سجنت نصف یوم في مصر في طريقي إلى غزة، بعدما ظنت السلطات المصریة أني كنت جاسوساً، لكن تلك قصة أخرى لها وقتها.
كان خبر الحذاء الأبیض الذي أعطیته لمستر ونستون قد انتشر وكان یجب عليّ أن أتوقع ذلك، لأنه كان ینزعه من قدمه كلما جاء إلى الحفلة صدیق جدید لیریه إیاه عن قرب، مفاخراً أنه حصل علیه من صدیقه القادم من أمیركا، كان منظره مضحكاً وهو یقفز على قدم واحدة مادّاً فردة الحذاء في وجه أصدقائه الذین لا أرید أن أتخیل ما كانوا یشمونه في تلك اللحظات، لكنني أدركت أنّ الخبر انتشر عندما توقفت معلومات السجن والمدة المقضیة من أصدقائي الجدد، وتحولت إلى طلبات أحذیة وملابس وإكسسوارات وسماعات وآیفونات أیضاً، مما جعلني أتساءل في نفسي ما یمكن أن یكون نوع الحشیش الذي یتعاطونه حتى جعلهم یظنونني بابا نویل، صحیح أنّ تاریخ ذلك الیوم كان الخامس والعشرین من دیسمبر/ كانون الأول، لكن ملابسي لم تكن حمراء ولست شیخاً سمیناً ذا لحیة بیضاء كثة!
بعد تمنیاتي للجمیع بالتوفیق، وتعبيري عن سعادتي البالغة بالتعرف إليهم، ووعودي بإحضار كل الهدایا التي طلبوها في الزیارة القادمة التي ستكون قریبة حتماً، شعرت بعطش شدید من كثرة الكلام، خصوصاً أنني كنت أجهزت تماماً على نصف الدجاجة الملتهب، فتلفّت حولي حتى رأیت بسطة للمشروبات على الطرف الآخر من الساحة، مشیت إلی البسطة حتى وصلت إلى نادلها الذي كان شاباً صغیراً نحیلاً.
لا أدري إن كان بسبب دخان الحشیش المنفوث في وجهي طوال الساعات الماضیة، أم بسبب العطش الشدید الذي كنت أشعر به، أم أنها وصفة طباخ السجن السریة، لكنني عندما نظرت في وجهه تذكرت قصة ذلك الأعرابي من مقامات الهمذاني عندما قال للغلام: "اسقنا الماء المُشعشع بالثلج لیقمع هذه الصّارة، ویفثأَ هذه اللُّقم الحارّة!". بعد أن "شفطت" عبوة میاه مثلجة نصب علي في سعرها الغلام الجامایكي طبعاً، كدت أن أقول له: "زن لي رطلاً من حلوى اللوزینج، فهو أجرى في الحلوق، وأمضى في العروق، لآكله هنیئاً مریئاً!". لكن ما أن قضیت على شعور الجوع، عاد شعور الغثیان لیتملّكني من جدید، أما شعور السعادة فقد نسیته تماماً!
كانت بسطة المشروبات قریبة من السماعات التي كان الصوت الصادر منها عالیاً ومزعجاً جداً، وبدأت أعداد القادمین بالازدیاد، والذین ما زالوا من الشباب فقط بالمناسبة، وازدحم المكان وعلا صوت الموسيقى أكثر، وتكاثرت طلبات المشاريب للغلام وراء البسطة، وطلبات هدایا العام الجديد لي، وفي خضم هذه المعمعة الصاخبة، وإذ بمستر ونستون یسحبني من ذراعي ویأخذني إلى رجل ضخم الجثة عريض المنكبين، يشبه بشكل لا يصدق مورفیوس من فیلم المصفوفة-الماتريكس، لكنه أكثر شباباً، وكانت، مثل مستر ونستون تماماً، بشرته صافية ونقية جداً بشكل یثیر الإعجاب والحسد أیضاً!