التحليل النفسي لجمال عبد الناصر (1 من 2)
"كان عظيم المجد والأخطاء"، يفتتح أستاذ الطب النفسي الشهير الدكتور يحيى الرخاوي تحليله النفسي للرئيس جمال عبد الناصر، بهذه العبارة "الإكليشيه" التي أطلقها الكاتب الفرنسي الشهير جان لاكوتور في وصف عبد الناصر، ولعله استلهمها من بيت شعر للشاعر العراقي الكبير محمد مهدي الجواهري قال فيه: "لا يَعصِمُ المجد الرجال وإنما.. كان العظيمَ المجد والأخطاء"، وهو معنى ترجمه إلى العامية عمنا أحمد فؤاد نجم في قصيدته الشهيرة (زيارة إلى ضريح جمال عبد الناصر): "عمل حاجات معجزة وحاجات كتير خابت".
بعكس تلك البداية المتسامحة، ينهي الرخاوي قراءته النفسية لعبد الناصر بشكل غاضب، حين يطرح سؤالاً عما ينبغي أن يحدث لو عاد عبد الناصر حياً بيننا، فيجيب: "سنقول له شكرا، وسوف نُكرِمه أشد الكرم وأبلغه على ما كان منه مما لا يمكن إنكاره، ثم سنحاكمه وسندينه في الأغلب بادئين باعترافه أنه المسئول عن نكسة 1967 جملة وتفصيلا، ومن واقع الواقع وشهادة التاريخ، فنعدمه بعد محاكمة عادلة، فشرف تاريخه يستحق ذلك، ثم سنزور قبره نستلهم خطاه، وندعو له بالرحمة والغفران في 5 يونيو من كل عام".
وبرغم قسوة هذا الحكم الذي لا يخلو من عاطفية مفرطة ومربكة، يمكن التماسها لدى كل من عاش عصر عبد الناصر سواءً أحبه أم كرهه، فإن الرخاوي يحرص على بدء دراسته بالتأكيد على أن ما يكتبه فيها ليس موقفاً للطب النفسي من عبد الناصر، كما سيحاول البعض وصفها بذلك، بل هو موقف طبيب نفسي ما من عبد الناصر، "طبيب هو مواطن أولا، وله دراية خاصة بالنفس الإنسانية في الصحة والمرض وله في نفس الوقت دوافعه الذاتية وانتماءاته العقائدية". مضيفاً أن أكثر ما يواجه كل دارس لنفسية عبد الناصر وغيره من الزعماء العرب هو مشكلة الافتقار إلى المعلومات التفصيلية الخاصة والعامة عن شخصياتهم، لأن السير الذاتية لكل زعيم تظهره إما كنبي معصوم أو كشيطان رجيم، "ومعظم المذكرات لا تفعل إلا أن تمجد كاتبها "العالم ببواطن الأمور!" ثم تقوم بعملية قص انتقائي منمق لدعم وجهة نظر محددة مسبقا، ولذلك يدعو الرخاوي قارئي دراسته إلى ألا يحملوها أكثر مما تحتمل، لأنها ليست أكثر من "حديث مواطن مشارك له ثقافة نفسية مهنية محدودة يقول رأيه في حدود المتاح من معلومات بين أيدي العامة، قرأها بما يستطيع من واقع وطنيته وذاتيته وتخصصه في آن واحد".
يرى د. يحيى الرخاوي أن لجمال عبد الناصر أربعة أمجاد لا خلاف حولها هي:
أولاً: تثوير حركة الجيش "وليس قيام الثورة" الذي لم يكن مجداً فردياً له، ثانياً: اختراق الوصاية الاجنبية بتأميم قناة السويس "وليس بإخراج الانجليز" من مصر كما يفهم البعض لأن ذلك أيضا لم يكن مجدا فرديا له بل كان نتيجة نضالات شعبية متواصلة، ثالثا: الرؤية المستقبلية من منطق انتاجي متمثلة في السد العالي، رابعا: تغيير البنية الاجتماعية "ليس فقط بالإصلاح الزراعي". لكنه في نفس الوقت يعتقد أن داخل عبد الناصر أربع صفات أدت إلى جرائم لا غفران لها هي:
1ـ الجُبن: أمام تصور احتمال ثورة عسكرية جديدة "وهو ما أدى إلى تحمل خطايا صديقه المشير عامر".
2ـ الكذب: بإعلان الهزيمة انتصاراً "ما جرى في مضايق تيران 1956".
3ـ الهرب: الذي دفعه لإعلان قرار الانسحاب في هزيمة 67.
4ـ القهر والتسلط: وهو ما دفعه لإهدار القانون وسحق الحريات. ويرى الرخاوي أيضاً أن عبد الناصر تلبّس أربعة أدوار كانت تنتظر من يلبسها هي أدوار البطل العربي الاسطوري، والاشتراكي الثوري العقائدي، والمستبد العادل، والرمز العالمي خاصة بعد بزوغ دور لدول الظل.
يعتقد الرخاوي بعد تحليله لشخصية عبد الناصر أنه يمتلك عدة صفات متلازمة وإن كانت متناقضة في كثير من جوانبها، ويحددها كالآتي:
- الشجاعة وخاصة قبيل الحدث وبعده لا أثناءه.
- الانسحاب وخاصة تحت عنوان الحرص على مصلحة الناس.
- العطف، وخاصة من موقعه "من فوق" كرئيس.
- القسوة.
- الصداقة وخاصة ردا للجميل.
- الثُللية أو الشللية وخاصة اتقاءً للخيانة.
- الجهل وخاصة في التاريخ والاقتصاد.
- العناد وخاصة أمام جرح الكرامة.
- الانهيار وخاصة عند المفاجأة.
- الأمانة وخاصة في مجال رفض النفع الشخصي.
- الكرم وخاصة من مال الدولة عبر منح "الهِبات".
- المناورة وخاصة إذا تصور أن ذلك لتحقيق المصالح العامة.
- الصلف وخاصة حين يقدر بعد الجرح.
- البذاءة وخاصة حين يُستثار.
- الاستهواء أو القابلية للإيحاء من الغير، خاصة حين يعاشر الأذكياء الخبثاء.
- الايحاء للغير، خاصة حين يخاطب البسطاء.
- المثابرة وخاصة حين يتوقف الآخرون.
- الانفراد بالقرار وخاصة إذا سبق صدق حدسه في خطبة قريبة.
ويعاود الرخاوي تذكير قارئه بأن تحديده لتلك الصفات المتلازمة والمتناقضة في نفس الوقت، يأتي في حدود المعلومات المتاحة لمواطن مثله وأنه مستعد لتغيير كل أراءه إذا حصل علي معلومات أصدق تثبت العكس. يجدر الذكر هنا بأنني منذ أن اطلعت على هذه الدراسة عام 1997 بعد أن حصلت عليها من كاتبها، لم أجد دراسة أخرى للدكتور الرخاوي يعلن فيها عن ورود معلومات جديدة إليه تجعله يغير ما كتبه فيها، وأرجو أن يبادر إلى تنبيهي من تقع يده دراسة له بها مراجعة لأفكاره.
يختار الدكتور الرخاوي دخول عش الدبابير برغم إدراكه لما سيتلقاه من شتائم من مريدي عبد الناصر ومحبيه، حين يقرر ألا يتعامل باستخفاف مع ما كتبه بعض خصوم عبد الناصر عن وجود عقدة لدى عبد الناصر من مهنة والده البوسطجي، لكنه لا يتخذ من مهنة الوالد سبيلا للمعايرة بذلك الشكل الدنيء الذي قام به بعض الكتاب الكبار من خصوم عبد الناصر، بل يقوم برصد تأثير النظرة الطبقية المتعالية التي كانت سائدة في ذلك العصر على شخصية عبد الناصر، فيرى أن تلك المهنة "ربما تكون قد أثرت على تكوين عبد الناصر نفسيا"، مع ملاحظة أن الأمر لا علاقة له بما ندعو إليه من تقدير لكل المهن الشريفة، لأن ذلك أمر منفصل تماما عن الشكل الاجتماعي الذي كانت تعامل به هذه المهنة خلال طفولة عبد الناصر، وما يمكن أن يكون قد خلفه من آثار نفسية عليه لا يمكن استبعادها علميا حين قراءته نفسياً، خاصة أن تلك المهنة كما يقول الرخاوي كانت تستدعي تنقل الوالد عبر أكثر من قرية ومدينة، وكان من المتعارف عليه في ذلك الوقت أن يتلقى هدايا من أعيان القرية أو المدينة الصغيرة التي يعمل فيها خصوصا خلال المواسم والأعياد، وهو ما يرى الرخاوي أنه "قد يُحدث نوعا من الذل الخفي الذي قد يعاني منه البوسطجي وبشكل أكثر خفاء أولاد البوسطجي دون أن يدرك أي منهم ذلك، برغم أن إرسال الهدايا والإكراميات لا يعتبر إهانة من جانب المرسل بل يعتبر واجبا وتكريما، إلا أنه من جانب المتلقي يعامل بشكل مختلف، فالناس يعتقدون أن صعوبة العطاء أشد من صعوبة الأخذ، وهذا خطأ فسيكولوجية الأخذ مسألة مركبة تحتاج إلي استعداد خاصة ووعي خاص، فقد يكون الأخذ حرا وطيبا، إذا كان متبادلا بين اقران والرد فيه ممكنا، وفيما عدا ذلك قد يكون في الأخذ تنازل ومذلة".
لذلك يرى يحيى الرخاوي أنه "إذا كان هناك احتمال لوجود آثار نفسية قديمة خلفتها نشأة عبد الناصر، فلا يمكن أن تكون هذه الآثار ناتجة عن الفقر، لأن من كان في مثل مهنة أبيه لا يعد فقيرا بمقاييس العشرينات والثلاثينات، كما أنها ليست من آثار شعوره بكدح الفلاحين من أقاربه الأجراء فلم يثبت وجود صلات قوية له بهم، وإنما ستكون تلك الآثار مرتبطة بالوضع الاجتماعي لوالده "وضع الأخذ دون مساواة ودون احتمال رد، ويتضاعف ذلك حين يدرك الطفل أن هذه العطايا أصبحت تمثل دخلا ثابتا للأسرة يعتمد عليه فعلا، ينتظر في توقيت بذاته، ويخفف من مصروف بذاته، وأن المقابل الذي يدفعه الوالد هو انحناء سري أو كَسرة نفس أو انخفاض صوت".
ثمة نقطة إيجابية تتعلق بنشأة عبد الناصر، يذكرها الرخاوي حين يرى أن انتماء عبد الناصر إلي قرية "بني مر" في الصعيد لم يكن له تأثير مباشر عليه، لأن ظروف عمل والده وانتقاله من مكان إلي مكان تجعل أولاده يرتبطون أكثر بالإنسان لا بالمكان، ولذلك فقد جاء ارتباط عبد الناصر من البداية بالناس، أكثر من ارتباطه بالمكان والعرق. ولعل هذا يفسر الحكاية الشهيرة التي يرويها عم عبد الناصر عن رفض عبد الناصر طلب تقدم به والده كمندوب عن أهل قريته "بني مر"، وكيف أنه في واقعة أخرى أخرج أهله من أراض للدولة أخذوها بوضع اليد ولم يشفع لهم عنده انتماؤه الأسري والقبلي والعرقي لهم، وهو الانتماء الذي يكون قويا في العادة لكل من يتربى وينشأ في صعيد مصر، ولذلك كان تأثير انفصال عبد الناصر عن خلفيته المناطقية إيجابيا جدا.
يحلل الدكتور يحيى الرخاوي واقعة تروى عن عبد الناصر قبل تشكيله لتنظيم الضباط الأحرار، وكيف أنه فكر في مقاومة الاحتلال بتدبير عملية اغتيال تستهدف الإنجليز، ولكن العملية فشلت وأصابت شخصاً آخر غير المستهدف بها. مؤكدا أن للاحتلال فضلا على جيل عبد الناصر واقرانه لتنميته مشاعرهم الوطنية، لكنه يرى أن "ما قام به عبد الناصر كان تفكيرا شائعا في جيله، ولا يمكن أن يكون علامة مميزة على ميلاد بطل قادم أو ارهاصا بمولد زعيم، لكننا تعودنا حين يولد البطل ونبحث في دفاتره القديمة أن نقلب ما هو عادي إلي ما هو خارق ولا يكون ذلك في صالح البطل أو صالح الحقيقة. أما عن تكون شعور بالذنب لديه بسبب اصابته لشخص آخر. فهو أمر يستوجب تأكيد حدوث الواقعة التي لا تزال حتى الآن غير مؤكدة".
وفي قراءته لاشتراك عبد الناصر في حرب 1948 وخوضه تجربة الحصار المريرة في الفالوجة بفلسطين، يرى الرخاوي أن حرب 48 كانت علامة مهمة في تطور عبد الناصر النفسي فقد شهد فيها ـ تماماً كما شهد في حرب 67 بعد ذلك ـ نفس الشعور بالخديعة ونفس ألم مواجهة الواقع المر، وإذا كان القيام بالثورة يعتبر نتيجة إيجابية لأثر حرب 48 في نفس عبد الناصر، فإن لهذه الحرب آثارا سلبية ظلت مع عبد الناصر فترة طويلة، يمكن أن تكون مسؤولة نسبيا بشكل أو بآخر عن تنازلاته في حرب 1956 ثم هزيمة 1967.
وعند قراءته في تفاصيل تشكيل عبد الناصر لتنظيم الضباط الأحرار يعود الرخاوي للتحذير من استخدام أفعل التفضيل والنعوت الضخمة التي تظهر بأثر رجعي، مؤكداً على أن التاريخ الذي يُكتب بعد ظهور البطل أو انتصاره قد يكون وجها مختلفا تماما، عن الذي كان يمكن أن يكتب لو أن البطل لم يظهر أو لم ينتصر أو انهزم، ومن ثم فلا داعي لتفضيل عبد الناصر على غيره الذي حاولوا تشكيل تنظيمات لتغيير الأوضاع ثم خذلتهم الظروف، وأن ما يحسب لعبد الناصر هو أنه بعد نجاح "الحركة المباركة" كما كان يطلق عليها في البداية، قاد تحويلها إلى ثورة اجتماعية بوجه خاص وتحريرية بدرجة أقل.
...
نكمل غداً بإذن الله.