التغطية مستمرة والإبادة كذلك

17 نوفمبر 2023
+ الخط -

الإنهاك. هذا هو عنوان اللحظة. منهكون حتى من مجرّد الفرجة على الإبادة، دون قدرة على السقوط أرضاً أو البقاء واقفين. ترتجف وأنت تحاول الصمود أمام هذا التسونامي من صور الأشلاء البشرية الذي يتناثر من الشاشة ويقتحم البيت. تندلق الأشلاء في صالونك. تخرج من الصورة التي لم تعد تتسع مهما استمرت.

منهكاً من الوجع، من الوحدة في هذا العالم الكريه، تغمض عينيك قليلاً لتريحهما ولو للحظة، فلا تستطيع. تبقى الصور المطبوعة في بؤبؤ العين، قادرة على إيلامك وكأنّها ملتصقة بباطن الجفون. أرواحنا امتلأت بالجثث، بالأشلاء، بالأنقاض، بالرمل والباطون المتفتّت. أحسّ ببعضها، هنا في مكان ما داخل رقبتي، داخل بلعومي. أكاد أحس بأنّي لو تقيّأت سأتقيّأ رملاً مختلطاً ببعض أشلاء غزة.

الإنهاك بالمذابح المتلفزة في بث مباشر. أمواج عالية من الأصوات المختلطة بنداءات الاستغاثة غير المجابة وصراخ الغضب وبكاء العجز، تغمر رأسي كمياه البحر. أحاول إخراجها من أذنيّ كما نفعل للرمل بعد السباحة، لكنها تأبى الصمت وتلتصق. تتناهى إليّ حتى وأنا أحاول النوم، كالوشوشات التي تسمعها حين تضع على أذنك صدفة بحرية. وشوشات من رحلوا دون أن تستطيع أيّ يد أن تمتد إليهم وتنتشلهم من تحت الأنقاض. يقولون إنّ أصداف البحر تحفظ الأصوات من حولها لدهور. ترى ما الذي ستسمعه من أصداف بحر غزة بعد هذه الإبادة المهولة للإنسانية؟

التغطية مستمرة، والإبادة كذلك. والعجز بدوره مستمر. تسأل نفسك: ما الذي يدور في عقول القادرين فعلياً على فعل شيء؟ الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، الذي كسب قلوبنا جميعاً يوم غَضِب لغزة من شمعون بيريز في قمة دافوس، ماذا يفعل اليوم؟ يمنع الكوكا كولا بدلاً من إيقاف تصدير الفولاذ والصلب لإسرائيل؟ الفولاذ نفسه الذي يصهر لحم أهل غزة بأنقاض بيوتهم وحديد سيارات إسعافهم. الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي أيضاً؟ ماذا أقول؟ ماذا يُقال أصلاً غير ما نراه مما لا يفعله لمعبر رفح؟

يقولون إنّ أصداف البحر تحفظ الأصوات من حولها لدهور. ترى ما الذي ستسمعه من أصداف بحر غزة بعد هذه الإبادة المهولة للإنسانية؟ 

إسرائيل في مجمع الشفاء. أكاذيب وأكاذيب عن أنفاق وعناصر مختبئين كانوا فيها "لكنّنا تأخرنا فخرجوا"، كما قال المتحدث باسم جيش المجرمين. الخبر صوتاً وصورة لا يُحتمل. تُخرس صوت التلفزيون بحركة غاضبة، تُبقي الصورة. لكنها هي الأخرى لا تُحتمل. تُطفئ الشاشة وتروح تتمشّى بعيداً عن الجهاز، كأنما هو المسؤول عمّا يظهر على شاشته من فظائع. تهرب كمن يهرب من فكرة، من نظرة، من ناس تموت على الشاشات ولا يهبّ لنجدتها أحد. كلّ دقيقة، كلّ ثانية، الوقت يمرّ ببطء فوق أجساد الفلسطينيين الأبرياء.

غرف العناية الفائقة في مجمع الشفاء قصفتها إسرائيل للتو، ينخلع قلبك. أحدهم يصوّر ما يحصل في الداخل على ضوء الهاتف: كبار في السن بضمادات مختلفة أُخرجوا من غرف العناية إلى الممرات المظلمة الأقل تعرّضاً للقصف الإسرائيلي. وجوه هدّها التعب والعمر والمرض والترقب. تمر عليهم الكاميرا فينظرون لوهلة إليها بعيون مريضة وزائغة. يبدون أمام ضوء الكاميرا الذي فاجأهم وهم قابعون هناك، كمن لم يعتد الأنوار الساطعة منذ فترة. لا كهرباء في المستشفى. صحيح. لا يحظى الكبار بانتباه الكاميرا كثيراً، كأنّما الكبر عذر لإسقاطهم من لائحة أولويات التغطية. غزة بحاجة إلى تعاطف الرأي العام العالمي، والرأي العام العالمي لا تؤثر فيه صور المسنين بقدر صور الأطفال. على أطفال غزة أن يُجرحوا ويبكوا ويصرخوا لتحريك قلوب من يتفرجون هناك بعيداً.

تتوالى صور الأطفال الجرحى، الرضع، الخدج الموصولين بالأكسجين يدوياً بعد نفاد الوقود. سرّة بعضهم التي عقدت للتو إثر الولادة، لا تزال ظاهرة، نابقة من بطونهم العارية. أعمار ما أن تومض حتى تنطفئ. تصوّرهم الكاميرات وأرجلهم وأذرعهم الصغيرة العارية الزهرية تبعط في الهواء، في حين يرتفع صراخهم مختلطاً بأصوات القصف. أهم جياع؟ يريدون أمهاتهم؟ لا أدري. تكاد تمدّ يدك إلى الشاشة للإمساك بأيديهم الصغيرة المستنجدة.

التغطية مستمرة، والإبادة كذلك.

في النهار السابق، حفر الطاقم الطبي، أو من تبقّى منه، أرض الحديقة في مستشفى الشفاء لدفن جثث الشهداء التي تراكمت وبدأت بالتحلّل دون أن يستطيع الناس دفنها بسبب القنص والقصف. مقبرة جماعية. قبر على الأقل. أصبح المستشفى مقبرة والأطباء حفاري قبور. المنزل أيضاً أصبح مقبرة. الحديقة مقبرة. الشوارع مقبرة. لكن غزة لا تزال تقاوم.

تنظر في صحون العشاء كأنّك تراها للمرة الأولى. لا قدرة على البلع. تعود الى التلفزيون. إدمان المتابعة، إدمان الأمل. لعل وعسى. هدنة ربّما. مساحة نَفَس. أي خبر.

أحس بأنّي لو تقيّأت سأتقيأ رملاً مختلطاً ببعض أشلاء غزة

عاجل: وزير الحرب الإسرائيلي يستعرض صور جنوده في مقر البرلمان الغزي. يقول إنّه في وسط المدينة، وإنّه يسيطر على شمال القطاع. حسناً، ها أنتم قد تصوّرتم في دوار السرايا.. هل هذا يكفي؟ هل ستتوقفون؟ أبداً. يجيب الوزير. يقول إنّه لا أحد في إسرائيل لديه القوة الأخلاقية لإيقاف الحرب! فليترجم لي أحدهم ما معنى هذا؟

يتكلّم ويتكلّم متفاخراً بجرائم جيشه، جيش العصابات والمرتزقة، يؤكد مضيهم في الإبادة. يتلو بضع ترهات خاتماً أنّه سينتصر ويعيد الأسرى ويقضي على المقاومة.

هو يقول: سنفعل. إذا هو يعلم: هو لم يفعل. برغم كلّ هذا. لم يفعل. حسناً، إنّها ليلة إبادة أخرى.

تتوالى أسماء الصواريخ وحمولتها، قبّة الحديد وأنواع المسيرات، يشرح المراسلون أهميتها وميّزاتها وتاريخ تطوّرها واستعمالها. يبدو الأمر كحملة إعلانات لتجار الأسلحة. صحيح، غزة مختبر لها أيضاً، تجربة ميدانية لفعاليتها بقيمة التمثيل في مسرح الجريمة.

عاجل. يقول الخبر إنّ استطلاعاً للرأي لوكالة "رويترز" المقربة من الإدارة الأميركية، أظهر تراجعاً في دعم الرأي العام الأميركي للحرب على غزة من 41 بالمئة إلى 32 بالمائة. حسناً هؤلاء الاثنان والثلاثون بالمائة، ما هي طينتهم؟

كلّ دقيقة، كلّ ثانية، الوقت يمرّ ببطء فوق أجساد الفلسطينيين الأبرياء

في الخارج، تلبّدت السماء طوال النهار. يدوي صوت الرعد فتقفز عن الكنبة. لا. كنت تعلم أنّه لم يكن صوت القصف الذي سبق وسمعته في عدوان تموز 2006. لكن الأعصاب صارت أشبه بشبكة من الأسلاك العارية التي اجتاحها التيار الكهربائي على حين غرة.

تبرق السماء بقوة وتزمجر. يا الله؟ هات زلزالاً فوق مقياس ريختر، ليبتلع هذه الغابة المتوّحشة، ليبتلعهم ولو ابتلعني.

يهطل المطر بغزارة وعنف. يطرق بعنف على زجاج البيت. يذكرني صوته بأيام عشتها في غزة منذ عشر سنوات. يومها هطل الثلج لأوّل مرّة منذ خمسين عاماً على القطاع. لم يكن محاصراً تماماً بعد. كان معبر رفح هو الآخر مفتوحاً بعد الثورة المصرية.

تجتاح السيول الشوارع. مطر يا غزة. لكن، هل سينزل برداً وسلاماً على من هم تحت الأنقاض أحياء ربّما، وما زالوا ينتظرون؟

أفكر بتلك الفتاة الصغيرة التي كانت مطمورة تقريباً بفتات الباطون تحت أنقاض بيتها. سمعتها منذ أيام، بصوتها المتوّسل الباكي والخائف ترجو المسعف الذي كان ينبش الركام فوقها: "أمانة يا عمو طلعني.. أمانة".

أذهب للنوم باكراً. ربّما إذا غفوت قد أستفيق غداً على خبر جيّد.

أو ربّما لا أستفيق. أحسن، أقول لنفسي.

ضحى شمس
ضحى شمس
كاتبة وصحافية لبنانية.

مدونات أخرى