الثقافة والعالم في خطر
أزمة العالم الراهنة، وإن كانت من دون شك أزمة ثقافة، فهي أزمة أخلاق أيضًا. كلّ الأمراض الاجتماعية الفتاكة التي يواجهها البشر اليوم، ناجمة عن تراجع الأخلاق البشرية والمضي بالعقل الإنساني نحو ثقافة الغابة وقاطنيها.
غالباً تذهب مفردة الثقافة بعقولنا إلى الإنتاج والإبداع الفني والأدبي الذي ينتجه البشر. ليس في ذلك خطأ، إنّما ثمّة رابط مفتوح على هذه الثقافة مؤثر ومتأثر بها، هو الرابط الأخلاقي. حتى أنّ الثقافة التي تأتي في مقدمة حاجات البشر قد تتحوّل إلى خطر يحيط بالإنسانية إن هي جُرّدت من الأخلاق.
العنصرية، الطائفية، التكفير، الاستغلال والاحتكار ونهب الثروات وتمركزها في أيدي الفئات المحدودة المتحكمة... كل هذه وغيرها أمراض أخلاقية تسبّب فيها إلى حد كبير انهيار الثقافة الاخلاقية للقرنين التاسع عشر والعشرين من خلال الانهيار السياسي لأهم المدارس الفكرية والتنظيرية للقرنين الماضيين. ليست الشيوعية هي المنظومة الوحيدة السياسية العلمانية التي تسبّب انهيارها بـأزمة العالم الأخلاقية، بل حتى أعداء الشيوعية ومناوئوها تراجعت لديهم الثقافة الأخلاقية بعد انهيار خصومهم. خطاب الرأسمالية ووعودها للعالم في حقبة التحدّي الشيوعي كان سمحاً وواعداً في محاولة لاستقطاب العقل البشري، ولم يعد كذلك الآن.
مع تحوّل العالم إلى سيطرة القطب الواحد بدأت الرأسمالية العالمية بالتكشير عن أنيابها وتحوّلت من الوعيد والتهديد إلى الغزو المباشر وغير المباشر عبر التابعين المجرّدين من الأخلاق، وعبر المال والإعلام أيضا.
تحوّل المال والإعلام إلى السلاحين الأمضى لمواجهة العالم، ولاسيما الدول النامية. على قاعدته بدأت تظهر التحالفات التي لا جامع لها، إلا جامع التجرّد من الأخلاق البشرية. إنّ ما تتعرض له دول كسورية والعراق و ليبيا وبشكل خاص اليمن، يؤكد حالة الانهيار الثقافي والأخلاقي في العالم. تحالفات تنشأ تحت وطأة الحاجة والرشوة، بل وتُشن حروبٌ على قاعدة ذلك أيضًا. من يستطيع أن يذكر لنا سبباً منطقياً واحداً لفصيل من السودان المتلظي بواقعه الداخلي الكارثي، يقاتل في اليمن الفقير البائس!
الثقافة التي تأتي في مقدمة حاجات البشر قد تتحوّل إلى خطر يحيط بالإنسانية إن هي جُرّدت من الأخلاق
طبعاً يكرّر الإعلام مراراً كلّ يوم، أسباباً لهذه الحالة، وهي لا تضيف إلا ما يؤكد أنّه إعلام مجرّد عن الحقيقة فاقد للأخلاق، ولا سيما إعلام الدول التابعة، الذي هو تابع بدوره، ويعمل تحت ظلّ أسياده.
اللاأخلاقية التي أنتجتها الرأسمالية العالمية، صدّرتها للدول الفقيرة، ولاسيما التي لديها مال تستطيع معه أن تقدّم الرشى وتشتري ضمائر الدول الأخرى والأفراد. وتحاول الدول الرأسمالية، ولا سيما الولايات المتحدة الأميركية النأي بسمعتها عمّا عمّمته ونقلته إلى دول أخرى بلا أخلاق. الولايات المتحدة تقبل أن تشكل هذه الدول تحالفاً بالمال للهجوم على دولة أخرى ضعيفة، لكنها ترفض أيّ تجاوز من أيّ دولة أن تسيء لموقعها الرأسمالي.
بعد أحداث أيلول/ سبتمبر، وعلى ركام المركز التجاري العالمي المنهار في نيويورك، تبرّع أمير إحدى الدول لعمدة المدينة، وما لبث العمدة أن رفضها لشعوره أنّ الأمير وضع نفسه في الموقع الناصح الذي سيديم مكانته لديهم.
وستبقى حكومات تلك الدول ألتي تتحالف على حساب الأخرى من الدول الفقيرة في الشرق الأوسط هي أكثر الدول انعدامًا في القيم والأخلاق.
وفي السنوات الأخيرة شاهدنا كثيرا من حكومات تلك الدول وقفت وتقف الى جانب الولايات المتحدة الأميركية على الرغم من إرهابها المستمر على بعض الدول المجاورة للمتحالف معهم، فهل تناست حكومات تلك الدول قيمها وأخلاقها من أجل أن تقوم الولايات المتحدة بالدفاع عنها؟ وكان قد شكل انهيار المركز التجاري العالمي في نيويورك تحت وقع ضربات الإرهاب صدمة كبيرة للأميركان، الذين لم يصدمهم حتى الآن الإرهاب الناتج من أفعالهم في دول الشرق الأوسط الفقيرة. بل، ولا مانع من قبض العمولة بعناوين شتى.
نعم، إنه الانهيار الأخلاقي يا سادة.