الجزائر... وطنٌ يَحترق في "حُلَّتِه الجديدة"!
نَتَخبَّطُ منذ فترة غيرِ هَيِّنَة في ما يُسَمُّونه "الجزائر الجديدة"، ونجلس في وضع القُرفصاء على هذه الأرض العتيقة التي نحبها ونبكي حالها في وضع المُتفرجين مُكَبَّلي الإرادة، لنشاهدهم وهم يلفُّونَهَا رغما عنَّا وعنها، في ثوبٍ جديد لكنه رثٌّ باهت، ضيّق لا يسع أطرافها ولا هو يلمُّ شمل بَنِيها المُتعبِين.
وطنٌ كان من المفترض أن نلقى فيه النّجاة والحرّية والسَّلامةَ والأمنَ الذي وعدونا به في عروضهم البهلوانية الرّخيصة، بعد ركودِ حراكٍ دام أكثر من سنتين من النضال والمبادرات المغتالة، التجاذبات السياسية، والفشلِ في لَمِّ شمل المختلفين، في خِضَمِّ كَرٍّ وفًرٍّ بين السُّلطة والشَّعب، لتتعرّضَ مسيراته واحتجاجاته أخيرا للوأدِ بعُنفٍ في الشَّوارع الثائرة، من طرف نظامٍ لم يشبع أبدا من إعادة تدوير نفسه في كل مرة، ليحكم شعبا منهكا تتقاذفه الأزمات الاقتصادية والصحية والاجتماعية، إضافة إلى الكوارث الطبيعية وإرهاب الطرقات وشبح فيروس كورونا الذي عاد ليحصد الأرواح من جديد.
نحن نحترق في الجزائر الجديدة، تلتهم النيران قلوبنا وصبرنا وتأتي أيضا بشكل واقعي مزرٍ على أراضينا، فقد قضت طيلة الأسبوع الماضي على أكثر من 26000 هكتار من الثروة الغابية الموجودة في مدينة خنشلة، شرق الجزائر، حسب آخر الإحصائيات، وما تزال تلتهم المزيد من المساحات التي تعد رئة الجزائر في جبال الشريعة ومدينة تبسة وأماكن متفرقة متقاربة.
نفقد ثروة غابية عمّرت لعقود طويلة وساهمت في حماية مدن الشمال من التصحر، إضافة إلى ضياع الجنان المترامية التي كانت تعيل عائلات بأكملها وتغذي الأسر والمواطنين من أشهى الفواكه والمحاصيل.
يبدو الشعب الجزائري مخدراً في الواقع، ولم تعد فئة كبيرة منه آبهة بالوضع الصحي المتفاقم ولا حتى بالإحصائيات التي تزيد سوءاً يوماً بعد يوم..
وفي ظل عجز كبير للدولة أمام تلك الخسائر التي لم يدرك أحد سببها إلى حد الآن، إضافة إلى صمت مهين وغفلة غير مفهومة من السلطات المختصة، ثارت "ثورة المجارف" التي قادها شباب تلك المناطق العامرة بالرجال والنساء الشاوية "الأمازيغ" وغيرهم ممن ينحدرون من أعراق تجانست هناك لتصنع فسيفساء جزائرية ذات قلب واحد، لإخماد تلك النيران التي أتت على قوت البسطاء وجعلت من ذكريات أجيال كثيرة رمادا تحت جمرة التهميش، ولولاهم لضيعنا أكثر بكثير مما نخسره إلى اللحظة.
في "الجزائر الجديدة" نحترق، وإن لم نكن ضحية كوارث الطبيعة فإننا نُغتال وتُزهقُ أرواحنا كل يوم أيضا، ليس على يد جماعات مسلحة أو تفجيرات أو اغتيالات، ولكن جراء إرهاب طرقات يحصد الأرواح بنهم بالغ، ويعد من أكثر أسباب الوفاة في الجزائر منذ سنوات طويلة، حيث سجلت حصيلة ثقيلة لضحايا بلغوا 27 شخصاً بيوم واحد، ونحو 40 قتيلا خلال يومين من الأسبوع الماضي، ومع أن حصيلة الحوادث وأعداد القتلى انخفضت خلال سنة 2020 مقارنةً مع حصيلة السنوات الثلاثين التي سبقتها، إلا أن الجزائر ما تزال تتقدم دولا عديدة بنسب حوادث المرور والضحايا.
نخسرُ كل يوم عوائِلَ بأكملها، أطفالا ونساء، رجالا وشيوخا جراء السرعة المفرطة في الطرقات السريعة، ومع أن أسباب الحوادث معروفة ومن الممكن معالجتها، إذ غالبا ما يتسبب في ذلك سائقو شاحناتٍ ثقيلة ونقلٍ عموميّ وخاص غير مسؤولين وسيارات غير صالحة للقيادة، تبقى قوانين المرور غير صارمة ولا رادعة، وتغيب الرقابة الأمنية عبر الطرقات السريعة، وخاصة تلك التي تستعملها الشاحنات الثقيلة، وفي كل سنة تزداد الإحصائيات الثقيلة والأحزان في هذا الوطن ولا نجد في المقابل أي تطور أو تغيير في تسيير هذه الأزمة التي صارت كابوس الجزائريين الأسوأ على الإطلاق.
نحن نموت كل يوم، ولسنا نرى أملا في حياة أفضل في هذا البلد الجديد، وفي ظل ركود سياسي ممنهج، وتعتيم إعلامي على تصاعد الاحتجاجات الاجتماعية التي تشهدها مدن الجنوب، اشتعال الأسعار وانخفاض القدرة الشرائية بشكل فظيع، وخنق الحريات الفردية وحرية التعبير، عاد فيروس كورونا إلى نشاطه من جديد في موجة ثالثة تبدو مخيفة، ليجدنا غير مسلحين ولا مستعدين أو حتى آبهين، وكأننا لم نعرفه ولم نختبر مصائبه في صيف العام الفارط.
يبدو الشعب الجزائري مخدرا في الواقع، ولم تعد فئة كبيرة منه آبهة بالوضع الصحي المتفاقم ولا حتى بالإحصائيات التي تزيد سوءا يوما بعد يوم.
وفي الوقت الذي حذر فيه الأطباء وبعض الإعلاميين منذ أسابيع من عودة هذه الأزمة الصحية، ومطالباتهم المتكررة باتخاذ إجراءات الوقاية اللازمة حتى لا نشهد مصير الجارة تونس مثلا، كان الجميع، حكومة وشعبا يعيشون على كوكب آخر في غفلة، ظنا منهم أن الفيروس صار من الماضي، غير آبهين بالإجراءات الوقائية وضرورة الحذر من موجة ثالثة قد تدمر المنظومة الصحية التي هي بالأصل، تعاني من نقص الإمكانيات المسخرة لمواجهة الفيروس، إضافة إلى الظروف المزرية التي عاشتها وتعيشها الأطقم الطبية التي تجندت منذ سنتين لمكافحة الفيروس.
إنه احتراق بطيء نعيشه كشعبٍ فَشِلَ في الاحتفاظ بنَفَسٍ طويلٍ نحو التّغيير، ينتظرنا مستقبل مبهم الملامح تحت رحمة كل هذه المآسي، ونعيش في غفلةٍ عمّا يخفيه جبل الجليد.
فهل سنصحو قريبا لنزيح هذه المسوخ التي تستلذ رائحة شواءِ مآسينا؟