الجسد أداة للتعلّم
سعيد ناشيد
التعلّمات التي يمتلكها الإنسان في الحياة نوعان، إمّا مخزّنة في الذاكرة الوراثية، تتوارثها جينات الجسد، وتتراكم عبر الأجيال، وذلك على المدى الطويل، ثم لا يدرك منها الوعي إلا جزءاً يسيراً. وإمّا، يكتسبها الإنسان من محيطه الخارجي عن طريق الحواس والوعي، قبل أن يستدمجها الجسد لكي تصبح مكتسباً نهائياً.
ذلك أنّ المعرفة تمرّ بالضرورة عبر الجسد. فإمّا أنّها مخزّنة فطرياً في ذاكرة الجسد، أو أنها آتية من الخارج، يتلقاها الوعي عن طريق الحواس ثمّ يستدمجها الجسد، مثل السياقة، السباحة، العزف على آلة موسيقية، إلخ، والتي ما أن نتقنها حتى يشرع الجسد في إنجازها بسلاسة لاواعية.
بل حتى التعلّمات التي تبدو متعلقة بالعقل المجرّد، لا يكتسبها الإنسان إلا إذا عاود الجسد استدماجها. ولدينا مثال دال:
هناك مبدأ حسابي غريزي يشترك فيه الإنسان مع كثير من الحيوانات، يتمثل في الإدراك الغريزي للواحد والكثرة. فالقطة التي تحمل صغارها تباعاً من مكان إلى مكان آخر، تُدرك غريزياً أنهم أكثر من واحد، وعلى هذا الأساس تتصرّف في كلّ مرّة تعود فيها لحمل القطيط الموالي، وحين تصل نوبة الأخير تدرك أنه واحد، فلا تعود للتأكد من أنّ الباقي صفر. معظم الحيوانات تُميّز غريزياً بين أن يكون هناك شيء واحد، أو أكثر من شيء واحد، أو لا شيء.
حتى التعلّمات التي تبدو متعلقة بالعقل المجرّد، لا يكتسبها الإنسان إلا إذا عاود الجسد استدماجها
هذا المبدأ الموروث في الجينات يُستنبط منه مبدأ الحساب، حيث يكمن الطابع الكوني للرياضيات. لكن المعطيات الإضافية التي يتعلّمها الإنسان، مثل متتالية الأعداد، عمليات الزائد والناقص، ووصولاً إلى المعادلات، ينبغي أن يستدمجها الجسد لكي يتحقّق التعلّم.
أساس البناء الذهني للمتتالية العددية، من صفر إلى ما لانهاية، هو القدرة على التموقع الافتراضي للجسد. فلكي يدرك الطفل المتعلّم بأنّ العدد ستة يأتي بعد خمسة يضع نفسه مكان خمسة، ولكي يدرك أنّ العدد ثلاثة يأتي قبل أربعة يضع نفسه مكان أربعة. بل بهذه الطريقة تنشأ مفاهيم الزمان والمكان، وذلك انطلاقاً من التموقع الافتراضي للجسد: قبل، بعد، فوق، تحت، وراء، أمام، إلخ.
إنّ أهم شيء ينبغي التركيز عليه في مرحلة ما قبل التمدرس هو أنشطة الجسد: اكتشاف الجسد، تموقع الجسد، تعبيرات الجسد، إيقاعات الجسد، إلخ. فمن هنا يبدأ كلّ شيء، لكن هنا أيضا يوجد كلّ شيء: الرياضة، المسرح، الرقص، الموسيقى، الغناء، الحواس، التوازن، الحساب بالأصابع، إلخ.
ذلك أنّ التعلّمات المكتسبة خلال حياة الإنسان هي التعلّمات التي نجح الجسد في معاودة استدماجها. ولأجل ذلك ينبغي التركيز على تنمية ذكاء الجسد. حين أكتب بالقلم، أو الحاسوب، فأنا لا أفكر في الحروف، بل أترك المهمة لليدين، ومن ثم للجسد، وأتفرّغ في المقابل للمعاني. بل حتى المعاني بدورها تنساب بسلاسة حين أفكر بجسدي الذي يختزن خبرات النوع البشري، ويختزن أيضاً كلّ ما استدمجه من تعلّمات، في ما يسمّى بالحدس.
معظم الحيوانات تُميّز غريزياً بين أن يكون هناك شيء واحد، أو أكثر من شيء واحد، أو لا شيء
حين صرح حارس مرمى المنتخب المغربي ياسين بونو، والذي اشتهر بقدرته على صدّ ضربات الجزاء في مونديال قطر 2022، بأنه يستعين بالحدس، فمقصود القول إنّ جسده هو الذي يتخذ القرار في التوقيت المناسب، وذلك بعد أن نجح في استدماج كلّ التعلّمات السابقة.
إنّ القول المأثور الذي مفاده أنّ الثقافة هي ما يبقى بعد أن ننسى كلّ شيء، لا يحيل إلى النسيان باعتباره امّحاء للمعرفة، بل يحيل إلى القدرة على الاستدماج الجسدي للمعرفة، وللخبرات والمهارات، حتى تصبح مكسباً نهائياً للإنسان.
إنّ التفكير الحقيقي هو تفكير الجسد بعد أن يكون قد استدمج تعلّماته النظرية والعملية، وصار بالتالي أكثر ذكاء. والحال أنّ التفكير لا يكون عميقاً إلّا بقدر ما يكون تفكيراً بالجسد، كما يعلمنا باروخ سبينوزا وفريدرك نيتشه، ويتبعهما في ذلك القول فلاسفة معاصرون كثيرون.
أن تفكر معناه أن تفكر بجسدك، بكلّ ما يختزنه من خبرات النوع البشري، وبكلّ ما يستدمجه من تعلّمات نظرية وعملية. وأن تفكر معناه أن تجعل جسدك ذكياً، ثم تجعله يفكر. لذلك، فإنّ الجسد هو الأداة الأساسية من أدوات التعلّم.