الجماهير والأصول والشرف والعرض
أساطير بعثية (6)
أصر أبو سعيد على أن أحاديثنا السابقة، المتعلقة بالرفاق البعثيين، ذات قيمة عالية، فهي، من وجهة نظره، ممتعة بحد ذاتها، ودالة على الواقع الذي كانت (ولا تزال) بلادنا تعيشه. قلت:
- معك حق، أبو سعيد، وأنا أفيدك بأن مَنْ يريد أن يعرف شيئاً عن طبيعة الحياة في المجتمع العربي القديم، مثلاً، يمكنه أن يحصل على ما يريد من خلال كتابات الجاحظ، وأبي حيان التوحيدي، ومقامات الهمذاني، وأشعار المعري وابن الرومي، والكتب التي كانت تحكي عن الجواري والقيان، والسيرة الروائية الهائلة "ألف ليلة وليلة".
ولكن مشكلة الحكايات، برأيي المتواضع، تكمن في الخلفية العقائدية للراوي، فنادراً ما تعثر على راو يمتلك شيئاً من الحيادية، مثل "البديري الحلاق"، الذي ألف كتاب "حوادث دمشق اليومية" وأرخ فيه لإحدى فترات الحكم العثماني في دمشق، بأسلوب شعبي مشوق.
ولتوضيح هذه الفكرة أكثر؛ أقول: ثمة شخص يروي لك قصصاً عن البعثيين، ويعتبر تصرفاتهم نضالاً، وبطولات، وتضحيات، وإنجازات، ويسوغ غياب الحرية الناجم عن بطش سلطة حافظ الأسد، بأنها ضرورة مرحلية، يمليها علينا كون دولتنا مواجِهة لإسرائيل.. وراو آخر، معادٍ لنظام الأسد، يرى أن نظام الأسد سببُ كل البلاوي الزرقاء التي تثقل كاهل المجتمع السوري، وكأن أبناء المجتمع على سوية واحدة من الطيبة والبراءة، لا يوجد فيهم نصاب أو مجرم أو متخاذل.. والراويان، برأيي، مخطئان، ومُضَلِّلَان، لأن كل واحد منهما يحاول تبرئة الجهة التي يؤيدها من المسؤولية.. والآن؛ قل لي: هل ترى أنني أتفلسف؟
- بصراحة يا أبو مرداس؟ نعم.
- طيب. دعنا، إذن، نرجع إلى سياق الإمتاع والمؤانسة الذي اعتدنا عليه، ونتحدث عن المصطلحات الخنفشارية التي يتبناها الإعلام البعثي، والخطباء البعثيون، عندما يخاطبون جماهير شعبنا (الكادحة).. أنا، يا أبو سعيد، حتى الآن، لم أفهم سبباً لإلصاق صفة الكدح بالجماهير، وقولهم، عندما يتنازلون قليلاً عن صلفهم وغرورهم: إننا نخوض مع العدو "سلام الشجعان"، وكذلك لم أجد لمسألة الشجاعة أية علاقة بموضوع مباحثات السلام، وأذكر أن السيدة بثينة شعبان قالت إن حافظ الأسد يفاوض بشرف، ما علاقة المفاوضات السياسية بالشرف؟ ما كان ينقصنا، في هذه المعمعة الكلامية، غير أن نتحدث عن العِرْض، والنخوة، والحمية، وإغاثة الملهوف.. فتدخل أبو سعيد، وقال وهو يضحك: والأصالة؟
- نعم. هذه مصيبة المصائب في ثقافتنا المتوارثة. أذكر أننا كنا، ذات يوم، نتحدث عن الاعتدال والتطرف، فارتجلتُ موالاً، على منوال مواويل المطرب المصري محمد طه، قلت:
يا اللي هويت الاعتدالْ، سيبك من التطرفْ
وانْ كنت عايز تقولْ، بَعّدْ عن التَفَلْسُفْ
ده لا الاعتدال بينفعْ، ولا بينفع تَطَرُّفْ، عَ الأصلِ دَوَّرْ
هذا الموال، يا أبو سعيد، يأخذنا إلى مصطلح الأصالة الذي ذكرته أنت في تعليقك.. ويدل على أن بعض الناس، في بلادنا، يأتون بأي كلام، يُخضعونه للوزن والقافية، ويغنونه، ويعتقدون، في المحصلة، أنه مهم. تعال، الآن، نناقش فكرة (الأصل) التي يوليها معظمُ أهل المشرق، ومنهم محمد طه، كل هذه الأهمية. لو أنكَ سألتَ أي واحد من الذين يدورون على الأصل، بغتة: ما هو الأصل؟ لتأتأ وفأفأ، وقال لك: آ؟ عفواً؟ تسأل عن الأصل؟ إإإ.. ثم يسكت. لماذا؟ لأنه لا يعرف الجواب، ومعه حق في هذا، لأن مفهوم "الأصل"، الذي نستخدمه في حياتنا اليومية غير محدد، ومع ذلك، ترى معظم الناس يتحدثون عنه، ويترنمون به قائلين:
- نحن نفهم بالأصول!
أو: فلان ابن أصل!
وبمناسبة الزواج، يقولون للمرأة: خذي الأصيل ونامي على الحصير!
والمطرب محمد عبد المطلب، يعاتب حبيبه (أي حبيبته) بقوله: وشَكِيْتْني لكَام عذول؟ بقى هيّه دي الأصول؟
وبالمناسبة، كلمة nesil التركية، تعني (كيف؟)، وهي مشتقة من كلمتين ne وتعني (ما) وasil وتعني أصل. يعني أن كلمة "كيف"، عندهم تعني: ما أصل؟
- المعلومات التي تقدمها، يا أبو مرداس، جميلة، وجديدة علي، ولكن، هل تعتقد أنه لا يوجد في مجتمعنا أناس أصيلون بالفعل؟
- إذا استطعنا أن نحدد مفهوم (الأصل) بدقة، يمكننا أن نتحدث عن ناس أصيلين، وناس غير أصيلين، ولا تنس أن نقاد الأدب اخترعوا مصطلحاً غريباً، هو: الأصالة والمعاصرة، وقد حاولت مراراً أن أفهم هذا المصطلح، فلم أفلح.. ولكي تكتمل الصورة في أذهاننا، سأضيف أن هناك أناساً يستبسلون في إثبات نسبهم لقبيلة ما، أو سلالة ما، ليكسبوا شيئاً من الأهمية، وأنا لست قادراً على الاقتناع بأن يكون إنسانٌ ما ضحلاً، وتافهاً، أو مجرماً، أو نصاباً، ومع ذلك يقال إنه ابن أصل! نحن، باختصار، يجب أن نعيد تعريف المفاهيم التي نستخدمها يومياً.
- أية مفاهيم تقصد؟
- كل شيء، دون استثناء. فمثلاً، رويت، قبل مدة من الزمن، حكاية واقعية، عن لاجئ سوري، له جاران ألمانيان، رجل وامرأته، يتعلمان العربية، قرآ قصة لكاتب عربي، فيها رجل خرج من إحدى البنايات وهو يضع حذاءه تحت إبطه، ويمشي حافياً، حتى إذا ابتعد عن البناية، وضع الحذاء على الأرض، ارتداه وتابع طريقه.
سألته الجارة: لماذا مشى الرجل حافياً؟ هل القصة كوميدية؟
قال: بالعكس، عنصر التراجيديا فيها أكبر.
- لماذا إذن؟
- لأن الرجل، بطل القصة، ذهب لزيارة خطيبته، ولم يكن أحد من أهلها في الدار، فخافا من أن يأتي أخوها الشرير، ويراهما وحيدين، فيضربهما، أو ربما يرتكب جريمة.. لذلك خرج الرجل حافياً لكيلا يحدث بحذائه صوتاً.
قال الجار:
- ما زال الأمر، بالنسبة إلي، غامضاً، فأولاً؛ ما علاقة شقيق المرأة بالموضوع؟ وثانياً، لنفرض أنه حضر ووجد خطيب أخته في زيارتهم. ما المشكلة؟
قال الفتى إن الأمر يتعلق بالعِرْض!
ثم ذاق الأمرين، وهو يحاول إفهامهما معنى (العِرْض)، دون جدوى.
(للحديث صلة)