الحبُّ في منتصفِ العمر
سعيد ناشيد
الدافعُ إلى الحبِّ لا نرثه عبر الجينات، وإلّا لكان يَسهل تدبيره، بل نكتسبه من خلال كلّ ما نتلقاه من حكاياتٍ، أغان، قِصص، قصائد، أساطير، وديانات، وإجمالًا فإنّنا نكتسبه عن طريقِ اللغة. الحبُّ الذي نبحثُ عنه في كلِّ مكانٍ وقد نجده حيث لا نتوقّع، هو أثر الوقع السحري لكلمةِ "أحبّك"، والتي نسمعها منذ طفولتنا، ثم نحاول في مطلع شبابنا أن نلقي بها كما نلقي بالحجر في بئرٍ عميقة، ويمضي بعض الوقت قبل أن نتعلّم كيف نرخي السمع لوقعه المهيب في بئرِ الوجدان، ومن ثمّ نكتشفُ أنّنا أمام لعبةٍ خطرةٍ، لعبة لا ينبغي أن نلعب بها!
في تجربةِ الجنس يكون الأمر هيّنًا، إذ يكفي أن يتحقّق الإغراء، وهذا ما أوضح أرثر شوبنهاور كيفيّة تحقّقه، حيث يُمثّل الإغراء حيلةً تطوريةً لغايةِ المُساهمة في تقويمِ النسل، وقد سبق شرح ذلك، وهو أيضًا ما يفسّر قصص الحبِّ في فترة ريعان الشباب، مرحلة الرومانسيّة، التي هي الفترة الأنسب لجودةِ التناسل بالنسبة للطبيعة، لكن ذلك كلّه لا يفسّر قصص الحبِّ التي تحدث فجأةً أو عنوةً بعد منتصفِ العمر، حين يدبّ دفء الحبِّ في عظامٍ بدأ يصيبها الوهن، وتتحرّك دواليب بدأ يعلوها الصدأ، وتنطلق المغامرة الأكثر كثافة في آخر الرحلة.
يشبه الأمر الأيّام الأخيرة للمخيّمات الصيفيّة في مطلع الشباب، حيث نجري محادثاتٍ عاطفيّة أخيرة بأقصى ما يمكن من الكثافة (أتكلّم هنا عن زمنٍ بدون هواتف محمولة). صحيح أنّ مشاعر النهايات تنعش دوافع الحبّ، لكن شيئًا إضافيًّا يحدث بعد منتصف العمر، حيث يتحرّر المرء من الأجندة التطوّرية للحياة، والتي ربّما قيّدت الإرادة وعاكست الذوق، ومن ثمّ قد يتحرّك الدافع الروحي نحو البحث عن "توأم الروح". إنّها الأزمة العاطفيّة لمنتصف العمر، التي تداهم الكثيرين دون أن يفهموا ما الذي يحدث؟
الحبَّ هو ثمرة قدرة الإنسان على أن يقف ويتقابل وجهًا لوجه بكامل التفرّد الشخصي: الملامح، والنظرات، ونبرات الصوت، والكلمات التي تخرج من الشفاه
وهذا ما يحدث: في ريعانِ الشباب تطغى على الإنسان الدوافع البيولوجيّة أثناء اختيار شريك الحياة، حيث يكون التناسل جيّدًا من وجهةِ نظر المشيئة التطوّرية للحياة. تحلم الفتاة اليافعة اليانعة بشابٍ قوي الشكل قويم المظهر، يأخذها في الغالب إلى مكانٍ بعيد، فيبدو الخيال جامحًا، إلا أنّ الأمر يتعلّق بحيلةٍ من حيلِ الحياة، حيث يبحث اللاوعي عن جيناتٍ تستحق أن تُورّث، وعن زواج الأباعد لأجل التنوّع الجيني وتحسين النسل. في المقابل، يحلمُ الشاب اليافع اليانع بفتاةٍ رشيقةِ القوام، تقطن بعيدًا في أرضِ الجمال الآخر، أو جمال الآخرين، وهنا أيضًا يسعى اللاوعي إلى جيناتٍ متنوّعة وتستحق أن تُورّث. لذلك نؤكّد بلا تردّد؛ بأنّ الطوائف والمذاهب التي تُحرّم التزاوج خارج الطائفة تفسد خطّة الحياة في تحسين النسل، فيصبح التمرّد عليها ضرورةً طبيعيّةً، على أنّ التمرّد ينبغي أن يكون من الداخل.
بعد منتصف العمر لا يبقى الوقت مناسبًا لجودة الإنجاب، فتسحبُ الحياة أجندتها التناسليّة التطوريّة، وتدمِّر بويضات المرأة، وتُضعِف تدريجيًّا نطفة الرجل. بالموازاة يتباطأ إنتاج الخلايا المنويّة، وتتقلّص الطاقة الجنسيّة، ما قد يترك جرحًا نرجسيًّا في الفحولة. لكن بعيدًا عن الوساوس الشائعة في مجتمعاتنا، فإنّ الحاجة إلى شريكٍ يناسب النصف الثاني من الحياة يتضمّن بعدًا إضافيًّا يسمو قليلًا على البعد التناسلي، هو البعد الجمالي. الجمال فرصة الروح للسمو، عكس ما يتصوّره البعض. إنّ الدلالة الرمزيّة لحوريّات البحر، والتي تبنتها معظم الحضارات القديمة كحلمٍ جماعي، تحيل إلى السمو الجمالي عن الأبعاد التناسليّة حين يتخذ النصف السفلي شكل سمكة. صحيح أنّ النصف السفلي ضروري للمتعة ودوام النوع البشري، ولذلك لا تدوم صحبة الفارس للحوريّة طويلًا، لكن تلك الصحبة هي تمرين جمالي للتركيز على الجزء العلوي، والذي هو الجزء الأكثر بشريّة وتفرّدًا، سواء لدى المرأة، أو لدى كلِّ كائنٍ بشري.
قديمًا جدًّا، قبل أن ينتصبَ أسلافنا واقفين، كانت المؤخرة هي الأكثر بروزًا (كان الذيل ضروريًّا إذا!)، وفي كلِّ الأحوال، حتى ولو كان الجنس وقتها أكثر إمتاعًا حسب نوع من الخيال، إلا أنّ الحبَّ لم يكن ممكنًا، ذلك أنّ الحبَّ هو ثمرة قدرة الإنسان على أن يقف ويتقابل وجهًا لوجه بكاملِ التفرّد الشخصي: الملامح، والنظرات، ونبرات الصوت، والكلمات التي تخرج من الشفاه.
أحبّك لأنك أنت، لأنّك أنت بالذات. وذلك هو المغزى الذي قد لا ندركه إلا بعد تراجع الضرورة التناسليّة، بعد منتصفِ العمر.