الحق في الاختلاف الفلسفي: هل هو حق أريدَ به باطل؟
عديدةٌ هي الأصوات المُنادية بالاختلاف الفلسفي؛ أن يكون لنا فيلسوفنا الخاص، استعمالنا الخاص للعقل...، وطبعًا هذه الدعوات تنطوي على رنّة بُكائيّةٍ وتختزن قدرًا غير يسير من المظلومية الإبستمولوجية: خطاب ضحية، يشتكي من هيمنة إبستمولوجية، شمالية غربية، وعقل مركزي متمدّد في عروق منابع المعرفة في ثقافتنا. وبالطبع يزعم أصحاب هذا الخطاب أنّ هذا العقل المُهيمِن على ثقافتنا يؤجّل إلى إشعار آخر ظهور العقل المحض الخاص بنا، ويجعل ثقافتنا من دون فلاسفة أو فلاسفتنا من دون فلسفة. ومن هنا دعوة أصحاب هذه المظلومية الفلسفية إلى الخروج من عباءة المركزية الأوروبية طلبًا للاستقلال الفلسفي ثم الاستئناف الفلسفي من أجل المشاركة الفعالة في التراكم المعرفي، بحيث إنّ الأنساق الفلسفية الكبرى أغلقت على الآخر المتأخّر كلّ محاولة للإبداع. ولهذا يتم الحديث عن إبداع "مفاهيم مقاومة تقاوم تغول العقل الغربي كنموذج للكينونة مفروض على العالم". لكن لنحاول مشاغبة هذا الخطاب، وهذه المظلومية، التي نتفق معها في أمر ونختلف معها في أمور، الأمر الأوّل الذي نتّفق معها فيه هو الدعوة إلى الإبداع وقيمة الاختلاف التي ينطوي عليها هذا الخطاب، لكننا نختلف في تصوّرها لهذا الاختلاف، من حيث ربطه بالمقاومة والتشرنق والمرابطة في الثغور، وكأنّنا لن نختلف مع هذا الآخر فلسفيًا إلا بالعودة إلى الماضي، أي أنّ أفق الاختلاف يبدو منحصرًا في التراث (الاختلاف بالتراث)، في وقت إنّ الاختلاف هو الإتيان بمفاهيم تجاوزية بنفس القوة التفسيرية التي تمتلكها المفاهيم الموجودة، وليس الحديث عن مفاهيم "مقاومة" إلا حديثاً خارج نسق الإبستمولوجي، بل التشرنق والمنافحة من داخل نسق هووي لا يؤمن بتراكميّة المعرفة. إنّ الحديث عن مفاهيم مقاومة هو إعادة إنتاج سيكولوجي لسردية الثغور والمرابطة ذات الأفق الأخلاقي، بينما يستدعي الأمر تغيير ساحة المعركة، إلى ميدان العقل. وهذا الأخير هو ورشة العمل المناسبة لاختلاق الاختلاف، فهل من فيلسوف أو بطل فيلسوفي من جهتنا قادر على إنتاج مقولات جديدة للعقل خارج مفاهيم الزمان والمكان... وغيرها من فتوحاتِ النقد الكانطي"الغربي"؟ وهل من نقد جذري حقيقي مُخالف للذي كسر به نيتشه المبنى المُتناسق للعقل الغربي؟ إنّ تحقيق الاختلاف يقتضي التملّك والتحاور ثم التجاوز والتجديد، وإلا سيبقى الحديث عن الاختلاف مجرّد حديث "وراء الدار"، ومجرّد ردات فعل أخلاقوية وسيكولوجية "تتملّق الذات" ويكون أفقها تفكير محدود يقف عند إرضاء انتظاراتِ الثقافة وتملّقها.
يسقط خطاب الاختلاف الفلسفي في العديد من المطبّات الفكرية، أهمها فخّ الأسئلة الخاطئة. فبعض الأسئلة تجب إعادة طرحها بصيغ أخرى، أو أنّها أسئلة سيئة الطرح أصلًا يجب التخلّي عنها لأنها توجّه مسار التفكير نحو التيه. مثلا سؤال: ما المطلوب للخروج من عباءة المركزية الأورويبة فلسفيًا؟ هو في تقديري سؤال موهم وينطوي على مسلّمةٍ خاطئة، وهي "إننا دخلنا إلى منظومة التفكير الغربي وإن عقولنا اليوم هي عقل كانط النظري ونقدنا مسلح بمطرقة نيتسه...". لكن من قال إننا دخلنا أصلا إلى هذا النادي "نادي التفلسف"؟ الأمر في تقديري فيه سوء تشخيص للحالة الفلسفية ويستلزم المزيد من التفكير.
يسقط خطاب الاختلاف الفلسفي في العديد من المطبّات الفكرية، أهمها فخّ الأسئلة الخاطئة
إنّ الفيلسوف في تاريخنا منذ العصر الوسيط هو نابتة؛ أي لم يجد لنفسه موضعًا مريحًا ومركزيًا، وبقي دائمًا على هامش الحقل، لقد استنزف كلّ الجهد في البحث عن موضعه ضمن ثقافة ترفضه، هذا الفيلسوف عندنا الذي خاض معارك الاعتراف بوجوده وسخّر العقل للدفاع عن نفسه وشرعنة وجوده بإيجاد صيغ للتوافق بين الأفق الروحي للثقافة التي ينتمي إليها والصرامة العقلية للفلسفة. هذه أوّل معركة استنزفت الفيلسوف عندنا بحيث جعلت الفلسفة رغم ظهور الفلاسفة لم تبدأ بعد، لقد ظلّ التفلسف إذن من الناحية التاريخية آخر نقطة في جدول أعمال الفيلسوف في ثقافتنا، فمعركته الأولى والأخيرة للأسف توجّهت لتبرير الوجود، وهذا فوّت علينا زمنًا فلسفيًا رهيبًا.
ومن جهةٍ أخرى، من قال إنّنا خارج الفلسفة التي ننتقدها؟ ومن قال علينا أن نستأنف أيضًا؟ ألا يمكن التفكير خارج هذه الحدود المُقوِّضة للتفكير؟ ثمّ هل الأنساق الفلسفيّة الكبرى منذ فلسفة اليونان إلى هيغل، هي بالفعل أنساق غربية خالصة؟ وبناءً على أيّة جغرافيّة عقلٍ يمكن تصنيف هذه المنتجات؟ أعتقد أنه يصعب وضع حدود للعقل كما توضع الخرائط للأرض، فأرسطو ليس يونانيًا إلا عرضًا.
ظلّ التفلسف من الناحية التاريخية آخر نقطة في جدول أعمال الفيلسوف في ثقافتنا
إنّ العمل الفكري معقّد وتشبيكي إلى درجة أنّ مفاهيم الاتصال والانفصال والهوية... تبقى عاجزة بشكلٍ مطلق عن تحليل الظاهرة الفكرية. فاستئناف التفلسف اليوم لا يتم إلا في ظلّ الأطر الكبرى لخريطة المعرفة في العصر المعاصر (نقد الميتافيزيقا، تحليل اللغة، الإبستمولوجيا، الأكسيولوجيا، الهرمينوطيقا...) وهذه الأخيرة تفرض على متفلسف اليوم ألا يقول قولًا كبيرًا، ألا يسعى إلى بناء نسق نظري... فهذه من "نياشين الفيلسوف" الكلاسيكي، إذ ليس مطلوبًا اليوم بناء نظرية إنقاذية للعالم، بل أن يفكّر الفيلسوف في أشياء صغيرة جدا. كما لا يجب أن يقترب أكثر من الأحداث، المهم أن يزن المسافة، وفي بعض الأحيان عليه ممارسة ضرب من العمى اللطيف، وأن لا يرى شيئًا، أن لا يحاول إيجاد وصفات علاجية لمشكلات الإنسان كما هو حال الفلسفات العلاجية، فالفليسوف ليس طبيب الحياة، إنما هو طبيب الفكر بالمعنى الإبستمولوجي، ليس موظّف دولة ليحلّ مشكلة إدارة بل هو موظّف عقل ليحلّ مشكلة إرادة. ولذلك، فالأنساق الفلسفية مثل النتشوية والهيدغيرية لن تفيد في العلاج، وخاصة السيكولوجي والمجتمعي لأنها "علاجات" ذات طبيعة وجودية، فحين ينشغل الفيلسوف بمشاكل ثقافته يصبح أمام امتحان عسير في العالمية. لكن وضعية الانحسار التاريخي للحضارة عندنا فرضت على المتفلسف أن يزاوج ويخلط بين هموم ثقافته وهموم العقل.
يبدو أنّ رهان التفكير خارج الأطر (غربية /شرقية/ أفريقية...). هو تحدٍ صعب، فليس هناك درجة صفر للتفكير، المطلوب هو ترتيب العلاقة بهذه الأطر واستيعاب منطقها ونقدها في نفس الوقت لإنتاج خطاب متناسق، خطاب يكون رهانه اليوم وليس شيئاً آخر، أن يستمرّ العقل مرافقًا ومُنصتًا لنبضاتِ الحياة، ويقاوم، ليس العدو السياسي أو نماذج الكينونة، وإنما مقاومة البلاهة والتفاهة، وهذه مهمة فليسوفنا اليوم البسيطة والمعقدة والعظيمة في آن.