الحنين إلى الأنوثة الضائعة
بنوعٍ من الحنين المشبع بالفقد أستعيد من ذاكرتي بعضًا من مشاهد الأفلام القديمة بالأبيض والأسود، حين كانت المرأة تحاول التنكّر في زيِّ الرّجال لتبدو كرجل. تثبِّتُ شارباً، تلبس قميصًا بأزرار على اليمين عوض الشمال. تنتعل بنطالًا بدلَ التنورة، وحذاءً رجوليّاً، ثم تسعل بقوّة لتتصنّع صوتا جهوريّا. قد تنطلي هذه الحيلة على شخصيات السيناريو ويصدّقونها.
لكننا لا نمسك أنفسنا عن الضحك أو عن النظر بعين الفضول إلى الأنوثة التي تبدو أكثر حيوية خلف تلك الثياب الذكورية القاتمة. تتوهّج الأنوثة خلف هذه الثياب غير المناسبة، والتي تحوّلت إلى شكلٍ من التهريج لا غير. لقد لبست الأنوثة ثوب المهرّج، إلاّ أنها لم تختف. إنّها أقل بكثير من ذكر باهت.
يبدو الأمر مستعصيًا ومُربكًا جدّا. فالحساسية الشديدة والعواطف والنبرة التي من دموع، والرّقة وطريقة النظر إلى الأشياء ولغة الجسد كلّها لا تُناسب حتى الجزمة التي تنتعلها. إنّ الحدود بين الذكورة والأنوثة واضحة وصريحة، وليس من السّهل القفز إلى الجهة الأخرى.
كما كانت أدوار هذه المرأة محدّدة سلفا ومُسلّماً بها وفق الممكن الذي ينتظره المجتمع منها. وخلافًا لأدوار الرجل العنيفة في الغالب، كانت أدوارها لا تخرج عن دائرة أنوثتها من حبٍّ وحنانٍ واحتواء وإلهام. فهي، إمّا أُمّا أو حبيبة أو أختا. وفي فظاعة الحرب التي يشعلها الرجال، كانت هي تعالج أثر حروقها كممرضة مسعفة ترفق بالجرحى وتعتني بهم. فلا يمكنها خارج هذه الأدوار أن تمسك المسدس بشكل صحيح لتخطّ مسار قصتها بالدم والعنف من أجل السطو والسرقة مثل الرّجل. إنّما أحيانا هي مضطرة إلى الضغط على الزناد كجرعة مرّة لتحافظ على شرفها أو أرضها وأبنائها.
هذا النموذج الأنثوي الرقيق الذي كانت تسوّقه سينما الخمسينيات والستينيات وحتى السبعينيات لم يعد له وجود الآن. لقد اختفى مع قَصّة شَعر سيسون وجافروش. انتهى من السينما والحياة أيضا. حيث أصبح التنكّر لهذه الرِّقة والعذوبة أمرًا صريحًا وواضحًا، مُعلنًا ومقصوداً ومُوَجّها. فهذه الأنوثة التي لم تستطع ثياب الرّجل إخفاء قوّتها وحيويتها في الزمن الجميل، استطاعت فكرة المجتمع الرأسمالي الحالي عن المرأة المعاصرة مسحها تمامًا، وجعلت التماهي مع ذكورة الرّجل أمراً مُمكنًا، وحتى مقبولًا.
لقد حدث تحوّلٌ مجتمعي كبير أفضى إلى هذا النوع من النساء المعاصرات الجامدات اللواتي تنكرنَ للرِّقةِ والنعومة باعتبارهما ضعفا وتخلُّفا، وسَخِرْنَ منهما في محاولة منهنّ لتجاوز طبيعتهنّ. فالمجتمع المعاصر أصبح يتطلّع إلى امرأة أخرى، امرأة قويّة بمقاييس قوّة الذكورة، لا الأنوثة.
يتطلع المجتمع المعاصر إلى امرأة قويّة بمقاييس قوّة الذكورة، لا الأنوثة
جسد المرأة، وإن ظلّ مثل ما هو، أصبح عاجزًا عن إظهار روح تلك الأنوثة المفتقدة. فرغم الهوس بتعرية بعض المساحات منه، لم يزده ذلك إلا بؤسًا. إثارة فارغة لغريزة الجنس. بل إنه جنس بارد بلا حرارة الأنوثة وحيويتها وعمقها الروحي الذي حرّك خيالات الشعراء الحالمين.
هذا التسطيح يبدو متعمّداً، إذ غالبًا ما يحتفل الإعلام الرأسماليُّ الموجّه والسينما والتلفزة والفن السريع بالنساء اللواتي يعتنقن نماذج حياة أكثر ذكورية، فلا مكان ولا قيمة للفتيات اللواتي يتمسكن بهوية أنثوية تقليدية في القرن الحادي والعشرين.
في كتاب "الأنثى الجديدة المضادة للبطل"، يقوم كلّ من الباحثين سارة هاجلين وجيليان سيلفرمان بالتركيز على هذا التحوّل العميق في أدوار الشخصية النسائية في الأفلام والتلفزة الأميركية. فبعيداً عن الشخصية المشرقة والصادقة والشجاعة التي كانت تتطلبها الشخصيات النسائية قديمًا، فإنّ الشخصية الجديدة تميل إلى الأنانية. ففي دراما الألفية الجديدة غالبًا ما تظهر البطلة طموحة ومتآمرة وقاتلة، مُتجنبة دور الفتاة الطيّبة من خلال رفضها المسؤولية الاجتماعية.
حسب الباحثين، يقدّم هذا النموذج الجديد للمرأة في صور الدعاية والسينما والتلفزيون طريقة سهلة لتقبّل نساء يتجرّدن من حِسِّ الأمومة والحياة المثالية الهادئة، لكي يجسدن أسطورة المرأة الخارقة التي تدفع بنفسها إلى دوّامة من الصراع والتنافس الذكوري. فعندما تكون المرأة ذكورية يبدو وكأنها تخطو خطوة إلى الأعلى.
وفي المحصلة، إنّ نتيجة الخطاب النسوي المتطرف منه تبدو عكسية وإن كانت مغيّبة عن النقاش؛ فذكورة الرّجل المعرّضة لسيول من النقد، وحتى الكراهية، باعتبارها سلطة وقهراً أبوياً وتخلّفاً وعنفاً، تنقلب هنا، سامّةً، وفي ملمح هجين.
فالمرأة المقاتلة التي تمتلك سلاحًا لتلوّح بالغطرسة المجانية، وفرط القوّة غير المبرّر، ليست في الحقيقة أقل من كونها تمتلك قضيبًا لاغتصاب وانتهاك طبيعتها الأنثوية الناعمة برعونة. إنّها صورة مريعة، بشعة، مشوّهة للطبيعة، موجعة، وبارعة حدّ الدجل في تزييف الحقيقة.