الديكتاتور الظريف

02 يناير 2017
+ الخط -

منذ أن توفي الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي في التاسع من أيلول/سبتمبر سنة 1934، وهو راقد في قبره بأمان واطمئنان، لا يعرف شيئاً عن تكاليف الحياة الموجودة فوق التراب.. وفجأة، وما إن بدأت الأحداث تجري في الشوارع التونسية، حتى بدأت الرحماتُ تنهمر على روحه الطاهرة، مثلما تنهمر الأمطار الفجائية في المناطق الساحلية، وأغلب الظن أن (الطوبة) الموجودة تحت رأسه، من فرط ما (تبشبشت)، على أثر دعوات العربان الصالحين له، قد انسحقت، وأصبح رأس ذلك المسكين على الأرض يا حَكَم! أي: من دون طوبة تسنده!

كل هذا حصل دونما ذنب ارتكبه الشابي، سوى أنه صاغ، حينما كان على قيد الحياة، فكرة بسيطة وبديهية ضمن بيت من الشعر، فقال:

إذا الشعب يوماً أراد الحياة

فلا بد أن يستجيـب القـدر

إن ما حصل لرفات الشاعر الشابي ضمن هذه المدة، من انهمار الرحمات عليها، و(بشبشة) طوبتها، سببُه المباشر أن الكتاب العرب الأشاوس، والمحللين الاستراتيجيين الفضائيين (الذين يتمترسون في استوديوهات القنوات الخاصة والحكومية منتظرين من الله تعالى أن يغيثهم بمشكلة كبرى في أية دولة عربية لكي تنطلق عبقرياتُهم من عقالها، وتبدأ أفواههم باللغلغة، وأصابعهم بالشوبرة)، هؤلاء الكتاب والمحللون، بمجرد أن بدأت الأحداث الشعبية التونسية، على أثر حرق الفتى البوعزيزي لنفسه، أخذوا يمطرون المشاهد العربي المتقوقع على نفسه من شدة البرد، الذي يعاني من الفقر، والقهر، والاستغلال، والوكف الذي ينقط عليه من السقف، بوابل من الآراء، والمزاعم، والتحليلات، والاعتبارات، والاتجاهات، والمقدمات، والاستنتاجات..


ولأن هذه الأحداث أدت، وبسرعة فائقة، وعلى نحو غير متوقع، إلى مغادرة الرئيس زين العابدين بن علي تونس، فقد وجدوا أن الحكاية - على حد تعبير نجم الكوميديا العربية الأول عادل إمام - (كبرت قوي يا رجَّالة)!.. وسرعان ما استحضروا الحكمة العربية القائلة (لكل مقام مقال)، وشرعوا يُكبِّرون بالحكي، فيتحدثون عن (ثورة شعبية تونسية) و(انتفاضة شعبية تونسية).. وصار كل صوص  ابن يوم منهم، ينهي جملته بتوجيه الرحمة (خَصّ نَصّ) إلى روح أبي القاسم الشابي، مرددين بيت الشعر الوحيد- ربما- الذي حفظوه في حياتهم، وهو: إذا الشعب يوماً أراد الحياة.. إلخ.

وكان هؤلاء المحللون الفضائيون، ومن خلفهم الصحفيون وكتاب الإنترنت الأشاوس، قد استطاعوا أن يُدخلوا في روعنا، نحن الغلبانين، التعبانين، المتقوقعين على أنفسنا من شدة البرد، والوكف، أن الرئيس زين العابدين بن علي عبارة عن ديكتاتور، بطاش، طاغية، نمرود، قمعي، شمولي، مستبد، ومن ثم فقد توجسنا خيفة، مع بدء الانتفاضة الشعبية، من الحَمَّامات الدموية التي ستشهدها تونس الشقيقة، حتماً، نتيجة رد فعله الديكتاتوري، وما سيلي ذلك من فقر ومجاعات وأزمات في صفوف الشعب.. ذلك أن ديكتاتور تونس بن علي، وكما هو معلوم للجميع، لا يمكن أن يتخلى عن عرش بناه خلال ربع قرن (أي منذ توليه السلطة سنة 1987) بهذه السهولة.


بيد أن السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو التالي: لو أن مواطناً من كوريا (الـ ما بعرف شو) الديمقراطية، أحرق نفسه احتجاجاً على الفقر، والبطالة، والديكتاتورية، على غرار ما فعله البوعزيزي، ثم خرج بعض الأهالي (الكوارنة) تأييداً له، هل كان الحاكم الكوري الـ ما بعرف شو، الديمقراطي، الأعلى (يضب كلاكيشه) ويغادر البلاد وكل ما في جعبته من القتلى لا يتجاوز الخمسين؟!


جاء في الأنباء التي تناقلتها الفضائيات أن (بن علي) طلب من الجيش أن يتدخل لقمع الانتفاضة، فلم يستجب له الجيش، وطلب من حاكم المصرف المركزي أن يكنس خزينته بالمكنسة، ويعبئ الأموال الموجودة فيها بالأعدال، ويعطيها له لكي يهرب بها خارج البلاد، فلم يستجب له حاكم المصرف، وأما قوات الأمن التابعة له فلم تتمكن سوى من قتل عدد من أفراد الشعب.. وهوبّا- كما يقول المعلق الرياضي المصري-.. وإذا ببن علي يغادر البلاد!

أنا دخيل الذي خلقك وصورك يا أخا العرب.. شو هالدكتاتور هادا؟!

------------------------------- 

 كتبت هذه المقالة ونشرت في صحيفة النور بتاريخ 26 يناير 2011؛ فكأنها تنبأت بما سيجري في سورية فيما لو قامت فيها ثورة

 

 

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...