الذكورة القاتلة
في قرية اسمها نفيا، تابعة لمركز طنطا، محافظة الغربية، في قلب الدلتا في مصر، وُلدت آية الشبيني، وتخرجت من كلية الآداب لتعمل مدرّسة وتعيش حياة بسيطة في قريتها. لكن "آية" تزوجت لمدة 48 ساعة فقط، حيث أقدم عريسها على قتلها بسكين المطبخ. طعنها في مناطق متفرقة من جسدها وقطّع أصابع يدها، وبعدها (كما يقول الشهود)، خرج وهو يعلن أنه قتلها لأنها لم تعطه حقوقه الشرعية!
إذاً، لم يكن القتل هذه المرة شكاً في سلوك العروس، ولا من أجل الشرف، إذ كشف الطبّ الشرعي أنّ العروس قتلت وهي عذراء. ونقلت وسائل إعلام عن والدة الفتاة، التي أضحت تُعرَف باسم "عروس طنطا ضحية زوجها"، قولها: "حسبنا الله ونعم الوكيل، بنتي ماتت عفيفة وشريفة، عذراء، وهي في دار الحق، بعد 48 ساعة من زواجها، منه لله اللي مثل بجثتها، وقطع أصابع يدها، وطعنها".
لم تكن "آية" الفتاة الأولى، ولن تكون الأخيرة في مشهد قتل النساء، وقتل "نيرة أشرف" في المنصورة في وضح النهار أمام باب كليتها من قبل شاب يريد الارتباط بها، ليس بعيداً عنّا. فوفقاً للإحصائيات الصادرة عن المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية (جهة حكومية)، وصلت أعداد جرائم قتل النساء والفتيات إلى 296 جريمة في عام 2021. كذلك أعلن المركز ذاته أنّ "نسبة تتجاوز 80 في المائة من النساء والفتيات المقيمات في مصر، يتعرّضن للعنف والتحرّش في الشوارع". فلم تُقتل النساء؟ هل يُقتلنَ لمجرّد قولهن لا؟
"الساحرات" يعدن من جديد، ويهددّن السطوة الذكورية، ربّما هو التهديد بالخصاء، وهذا مروّع بالنسبة للذكور
لم تعد الذكورة مهيمنة وحسب، وفقاً لعالم الاجتماع الفرنسي، بيير بورديو، لأنّ الهيمنة تقتضي الحصول على الامتيازات وقبول الآخر، ولو ضمنياً، فالهيمنة تحقّق للطرف المهيمن مصلحته وترعى امتيازاته، وفي الوقت نفسه يخضع لها الطرف الثاني بلين وهوادة، وأحياناً تماهياً معها. لكن نحن نعيش اليوم مرحلة الذكورة القاتلة، تلك التي صارت تهدّد الجميع، رجالاً ونساءً، حيث تُعامل النساء وكأنهنّ ساحرات القرون الوسطى، يُطارَدنَ ويُشوَّهنَ جسدياً ومعنوياً. وكانت المطاردة في القرون الوسطى تحصل بمباركة الكنيسة، بل وامتثالاً لأحكامها، وتجري في مناخ من الهستيريا والذعر الأخلاقي الذي تدفع ثمنه النساء بالطبع، لكونهن الأضعف في حلقة الخلق. فعبر النساء دخلت الخطيئة إلى العالم (وفق تفسيرات البعض)، وبسببهن حُكم على آدم بالخروج من الجنة، فهنّ سبب كلّ ابتلاء! هذا التصوّر لا يبعد كثيراً عمّا يحدث الآن، فالنساء هنّ سبب تدهور الأخلاق والقيم وتدني مستوى المعيشة والغلاء والبلاء... والرجل بالطبع هو من له القوامة، ولا يجب معصيته. خُلقت المرأة من ضلع أعوج، وهي ناقصة عقل ودين، أما الرجل فهو العقل والحكمة والشرف، لذا فكلّ ما يطلبه من المرأة يجده، دون ذلك يُعمَل على تشويهها أخلاقياً ونبذها وفضحها وقتلها.
لقد تحدثت الأنثربولوجية الفرنسية، منى شولييه، في كتاب لها صدر عام 2018 بعنوان "الساحرات: قوة النساء التي لم تهزم"، عن قوة حضور هذا المفهوم الآن، أي مطاردة النساء وكراهيتهنّ واصطيادهنّ كأنهن ساحرات القرون الوسطى. فالرئيس الأميركي، دونالد ترامب، أطلق جملة "اصطياد الساحرة"، قاصداً بها "هيلاري كلينتون" في حملته الانتخابية 2016. والساحرات يَعدن الآن، فالنسويات ساحرات، الثوريات ساحرات، النساء الحرائر ساحرات، النساء اللواتي ضد القبيلة ساحرات، النساء اللواتي يقلن لا ساحرات. وفي مسيرة مناهضة لحكم ترامب، ارتدت بعض النساء الأقنعة ورفعن شعار: "نحن حفيدات الساحرات اللواتي نجون من الحرق".
الساحرات يعدن من جديد، ويهددن السطوة الذكورية، ربّما هو التهديد بالخصاء الذي أشار إليه عالم النفس الشهير، سيغموند فرويد، وهذا مروّع بالنسبة إلى الذكور.
ونحن في حاجة إلى عودة الساحرات الآن من أجل استرداد الحياة، فالذكورة أصبحت خطراً يهدد الجميع.