الرأي العام الرقمي
يُعد مصطلح "الرأي العام" من المصطلحات القليلة التي يصعب على الباحثين تحديد معناها بشكلٍ دقيق، فعلى الرغم من أنّ هذا المفهوم ظهر في القرن الثامن عشر، فإنّه لم يُعرّف بعد بشكل مُحدّد، فالرأي العام من الصعب وصفه، وقد اختلفت المفاهيم وتعدّدت التعريفات، وقد حظي التعريف الذي أعدّه ليونارد دوب برضا الكثير من الباحثين، الذي قال فيه "إن الرأي العام يُشير إلى اتجاهات الناس حول موضوع ما حينما يكونون أعضاء في الجماعة الاجتماعية نفسها".
ومع تطور الوسائل التقنيّة الإلكترونية وبروز شبكة الإنترنت وتمدّدها ضمن مختلف دول العالم في منتصف التسعينيات، والنمو المُتزايد لشبكات الإنترنت وانتشار تكنولوجيا الاتصال والمعلومات، وبروز مواقع التواصل الاجتماعي، التي أتاحت لمستخدميها مجالاً عاماً افتراضياً يمكن من خلاله التعبير عن آرائهم المُختلفة، والتعليق على الشأن العام، وممارسة الديمقراطية الافتراضية، ومناقشة القضايا الاجتماعية والسياسية المطروحة في هذه الساحة الرقمية، إضافةً إلى تنظيم الاحتجاجات وتشكيل قوى ضغط للمطالبة بتحقيق مطالبهم، أتاح هذا الفضاء الرقمي بمنصاته المُتنوعة مشاركة كل الآراء والأفكار والإيديولوجيات المختلفة، فكل المستخدمين لديهم فرص متساوية في المشاركة والتحاور وإنتاج المحتوى.
ونتيجةً لهذه العوامل ظهر ما يسمّى الرأي العام الرقمي، والذي يُشكّل امتداداً للرأي العام الواقعي في الفضاء الرقمي، وهو الفكرة السائدة أو المحورية بين مُستخدمي الشبكات الاجتماعية ومنصّات التعبير عن الرأي، تجمعهم وتربطهم مصلحة أو قضية مشتركة إزاء موقف من المواقف أو مسألة من المسائل العامة التي تثير اهتمامهم أو تتعلق بمصالحهم المٌشتركة، أضف إلى ذلك القضايا الإنسانية التي باتت تُشكّل جزءاً من الرأي العام الرقمي في العديد من الدول.
ولقد فتح الفضاء الرقمي مجالاً جديداً للتمرّد والحركات التحرّرية، فالفرد يستطيع أن يقول ما يريد خارج الضوابط التقليدية للمجتمعات، خاصةً في المجتمعات السلطوية أو المجتمعات المُؤدلجة دينياً وعقائدياً، فهذه الساحة أتاحت التعبير الحُر الخارج عن سيطرة الدولة والمنظومات الحاكمة التي تحصر الآراء وتقيّد الأصوات ضمن مؤسساتها الإعلامية التقليدية بطريقةٍ موجهة وفقاً لسياساتها وإيديولوجيتها.
وشكلّ هذا الأمر تهديداً لهذه المنظومات الحاكمة التي تنتهج سياسات كم الأفواه وقمع الحريات وإلهاء شعوبها بأمور بعيدة كل البعد عن مشاكلهم الاقتصادية والاجتماعية، من خلال الدعاية الإعلامية والبروباغندا التي تمارسها عبر وسائل إعلامها، سواء تحت الشعارات الدينية أو العاطفية والقومية وما شابه، ما دفعها إلى الحضور في الساحة الرقمية من خلال بعض المؤثرين والناشطين أو الإعلاميين والباحثين الموالين لهم، إضافةً إلى استحداث مواقع وصفحات وحسابات ضمن المنصّات الاجتماعية المُختلفة. ونتجت عن ذلك فئة في الساحة الرقمية يعبّر أفرادها عن آرائهم التي تشبّعوا بها في واقعهم الحقيقي، ويتقبّل هذا الرأي الشائعات ويبني رؤيته السياسية على الأشخاص لا الأفكار والمواقف والمبادئ، كما أن هذه الفئة يسهل تهييجها وإثارتها وتدافع عن آرائها الرقمية بكلمات وعبارات قد تصل لحد السب والقذف والتخوين وإلقاء الاتهامات للمعارضين. ويتميّز رأي هذه الفئة بالنسيان أو التناسي، فقد يكون مؤيداً لقضية ما ثم يصبح معارضاً لها بمرور الزمن، وفي بعض الأحيان ضمن فترات زمنية متقاربة، وفقاً لتوجيه ورؤية المرجعية السياسية أو الدينية.
بناءً عليه، ومع استفحال هذه الظاهرة أخيراً، خصوصاً في بعض البلدان العربية التي تُعاني من أزمات مُتعدّدة وتواجه واقعاً اجتماعياً سيئاً للغاية، تفتقر فيه إلى الحد الأدنى من متطلبات الحياة وحقوق المواطن، نستغرب التماهي بين عددٍ كبير من الحاضرين في الساحة الرقمية، (علماً أنّهم يتعّرضون لمعاناة جمّة) مع أصوات المنظومات السياسية الحاكمة رقمياً.
لقد أتاح هذا الفضاء الرقمي التعبير الحُر وسهولة الوصول إلى المعلومة بكبسة زر، ومقارنة التغيّر في خطابات وشعارات الجماعات الحاكمة مُتاح ومتوفر للجميع، فليس على المواطن الرقمي إلّا أن يقرأ ويستحضر الوعود والخطابات والشعارات التي تتغيّر لصالح بقاء حكم معين، فلكل حاضر في الميدان الرقمي نقول، عبّر وتفاعل بما يراه عقلك، وارفع صوتك لتحصيل حقوقك، ولا تكن من الرأي العام الرقمي المُنقاد.