الرجل الذي جُن بسبب حافظ الأسد
أبو المراديس: كان لبعض الحكايات التي وردت على ألسنتنا خلال السهرات الماضية ردود فعل طيبة لدى القراء. أحد القراء الأكارم، واسمه "عمر"، اتصل بي عبر الماسنجر، وقال لي إنه يريد أن يناقشني بحكاية رواها "أبو الجود" في إحدى سهرات الإمتاع والمؤانسة.
قلت له: تفضل.
عمر: أول شي أنا بظن إنه الأشخاص اللي عم تتحاور معهم في السهرة مو حقيقيين، أنت اللي مخترعهم منشان تخلق هالجو المرح الظريف. وعلى كل حال، أنا حبيت هالشخصيات من البداية، وبعد فترة صرت أتعامل معها على أنها شخصيات واقعية.
أبو المراديس: الحدث الواقعي، يا أستاذ عمر، هو اللي بتقراه في عمل أدبي، وبتشعر كأنك شايفه أو سامع فيه من قبل، باختصار، الواقعي هو الشي الممكن الحدوث، وبصراحة أنا هيك بشتغل، باخد حادثة واقعية زغيرة، وبنسج عليها بطريقة بتوحي بأنها واقعية تماماً. وما بعرف إذا كان هالشي صح ولا غلط.
عمر: وأنا كمان ما بعرف. حبيت هالشخصيات والسلام. وعلى كل حال أنا بدي أتوقف عند الشخصية الغريبة اللي حكى عنها أبو الجود في إحدى السهرات، قصدي شخصية "النقيب خالد" اللي سرحوه من الخدمة ورجع على ضيعته وبلشت تظهر عليه علائم الجنون.. وأنا بدي أحكي لك حكاية مشابهة بطلها رقيب أول متطوع من قريتنا، كان سهران مع رفاقه في العسكرية، وأجت سيرة حافظ الأسد، وهوي كتير واثق إنه رفاقه ما فيهم مخبرين ولا عواينية، فأخد راحته وبلش يحكي. قال: والله يا شباب هادا حافظ الأسد هيئته مطول بهالبلاد، ونصيحتي إلكم، اللي عنده ولد ذكي وشاطر بالدراسة يبعته على شي دولة أوروبية، ويوصيه إنه بعدما يدرس ويتخرج يبقى هناك. ولما بينطلب ع الخدمة العسكرية خليه يدفع بدل نقدي. أحسن.
حتى إنه ابنه الكبير طلع مرة من البيت وصار يصيح بأعلى صوته: يا حافظ الأسد، الله يلعنك، طالما أخدت أبونا وجننته، ليش ما تركته عندك؟ آ؟ ليش ما تركته عندك؟!!
رفاقه سألوه: ليش أحسن؟
قال لهم: ما بتسمعوا حافظ الأسد لما بيخطب قديش بيحكي عن الشهداء؟ روح قلبه الشهداء، قد ما استشهدوا شباب سوريين بيطلب المزيد. يا خيو ما بيشبع. أصلاً نظام حكمه من لما استلم قائم على الشهداء. متلما بتعرفوا، في شباب راحوا في الحروب مع إسرائيل، بس هدول نسبتهم زغيرة بالقياس مع الآخرين. حافظ دخل بجيشنا ع لبنان، وبلش يحارب ضد اللبنانيين والفلسطينيين، وطبعاً هدوليك ما وقفوا متفرجين، صاروا يقاوموا، وخود على توابيت جاية من لبنان عَ القرى تبعنا.. بده يطلع ميشال عون من لبنان، سقط شهداء، في تل الزعتر، سقط شهداء، قصف إسرائيلي ع البقاع، سقط شهداء، هادا كله من عدا المدنيين اللي قتلهم رفعت الأسد في سجن تدمر وحماه، والسياسيين اللي بتعتقلهم قوات الأمن وبيتعرضوا لتعذيب وحشي، وخلال التعذيب اللي جسمه قوي بيصمد، واللي جسمه ضعيف ما بيتحمل، بيستشهد، بقى يا شباب اسمعوا مني، اللي بيصح له يفل لا يقصر، وعلى قولة المتل "الهريبة تلتين المراجل".
هادا هوي اللي قالوا حضرة الرقيب أول. تاني يوم، من طلعة الضو (أو من مَسْكة الأبريق - على قولة أهل معرتمصرين) أجت دورية أمن عسكري عالقطعة العسكرية وشحطوه، وغاب، ما عاد حدا يعرف وين أراضيه. مرت عليه سنتين، أربعة وعشرين شهر، 730 يوم سود طَلْس، ما في أخو أخته بكل أجهزة المخابرات بيعطيك كلمة، أو حرف بيدلّ على مكان وجوده. أهلُه ما تركوا مكان ما سألوا عنه فيه، والكل ماسكين حرف الميم، ما منعرف، مو عندنا، ما شفناه، ما.. ما.. ما.. بعد السنتين إجا خبر عالضيعة إنه هوي في العصفورية! أنا هون، يا أبو المراديس، في عندي سؤال، يا ريت تحسن تجاوبني عليه، أو تلاقي له تفسير. وهوي التالي: ليش لما الواحد بيتنظّم في حزب معادي للسلطة بياخدوه على سجن تدمر أو صيدنايا أو فرع فلسطين، واللي بيتعرض لحافظ الأسد شخصياً بياخدوه ع العصفورية؟!
قلت للسيد عمر: برأيي المتواضع، هاي الظاهرة في إلها احتمالات كتيرة، أولها إنه نظام الأسد كان يتقصد يودع الأشخاص اللي بيحكوا على حافظ الأسد في مشافي المجانين، لحتى يبعت رسالة للمجتمع السوري مفادها إنه اللي بيتجرأ وبيحكي على حافظ بيكون مجنون، ومكانه الطبيعي العصفورية أو المارستان أو الدويرينة.
التفسير التاني إنه هالرجل، بعدما يعتقل، من كتر ما بيعذبوه بيجن فعلاً، وبيضطروا يبعتوه ع العصفورية حتى يتعالج من الجنون..
والاحتمال التالت هوي اللي بيمثل شخصية النقيب خالد خاله لأبو الجود، النقيب خالد لجأ للجنون حتى يثبت للمخابرات إنه اللي عمله ضد حافظ الأسد، لما كتب على ورقة الاستفتاء (غير موافق) ما بيتواخذ عليه، لأنه مجنون وفاقد لقواه العقلية.
قال أبو محمد: عن جد يا شباب اليوم الحديث كويس. كنا نطالبكم بإنه تحكوا لنا حكاية، واللي حكاه أبو المراديس فيه أكتر من حكاية.
أبو ماهر: هادا الشي بيسميه بياعين القمصان (سيريه).. الزلمة حكى لك تشكيلة حكايات من مختلف المقاسات. وإنته بقى نقي على كيفك.
أبو المراديس: الحكاية اللي خبرني فيها السيد عمر عن الرقيب أول ابن قريته لسه ما خلصت. قال لي إنه إخوة الرقيب أول وعمامه وأولاده، لما عرفوا إنه موجود في مشفى الأمراض العقلية بلشوا يشتغلوا على إخراجه من المشفى، وقدروا يوصلوا لواحد من أعضاء اللجنة الطبية اللي فحصته، وعرف منه إنه اللجنة كانت مجبورة تقرر أنه مجنون، لأن اللي بيخالف الأوامر بموضوع بيتعلق بحافظ الأسد شخصي في أحسن الأحوال بيصير جنبه في المشفى.
وقال له: أخي، باختصار، مشكلتكم أمنية، مو طبية، روحوا حلوها مع الأمن.
أبو زاهر: هادا الكلام دقيق جداً.
أبو المراديس: وهادا الشي، في الحقيقة، خلى القفلة تبع القصة تكون ذروة في التراجيكوميديا، فاللي صار، بكل بساطة، إن أهل الرقيب أول باعوا بعض ممتلكاتهم، وبلشوا يشتغلوا بالقضية، ووين ما دخلوا يدفعوا رشاوى، لحتى قدروا يخلصوا ابنهم من مشفى المجانين. وبعدما طلع بمدة قصيرة، صارت تتسرب أخبار من داخل بيته بتقول إنه أولاده كتير عم يعانوا من طباعه. حتى إنه ابنه الكبير طلع مرة من البيت وصار يصيح بأعلى صوته: يا حافظ الأسد، الله يلعنك، طالما أخدت أبونا وجننته، ليش ما تركته عندك؟ آ؟ ليش ما تركته عندك؟!!