الرجل الذي حمل الكديش على كتفيه
سيرة الظرفاء (5)
حكاية الصديقين الشرهين للطعام، أبو الجود وأبو طلال، اللذين أكلا محتويات زنبيل كامل من القَرُو (تين ميبس يُقَدَّم للحيوانات ولا يصلح للبشر)، دون أن ينتبها لنفسيهما، أعجبتْ صديقي أبو سعيد، وقال لي إنه يستغرب أن يأكل الإنسانُ كمية كبيرة من الطعام في اللاشعور، أي دون أن ينتبه لنفسه. وأضاف:
- عندنا في العائلة حكاية تشبه الأسطورة، تدور أحداثها في الأربعينات، بطلُها المرحوم جَدّي الذي كان يحمل لقب "سليمان الهايشة"، وهو رجل ضخم الجثة، شجاع، قوي البنيان، يعيش في قرية صغيرة تقع في الجهة الغربية من مدينة إدلب، اسمها البَلَّاطة.. الحكاية؛ أن جدي، رحمه الله، مر، ذات يوم، بساحة القرية الترابية، وكان فيها حشد من أهل القرية، وثمة مشكلة عويصة يفكرون بحلها.
- ما هي؟
- كان قد هطل، في تلك الشتوية، مطرٌ غزير، فامتلأت الساحةُ التي تتوسط القرية بالماء، وعندما تبخر الماء، في مطلع الربيع، تحولت الساحة إلى مستنقع ممتلئ بوحل لزج، الويل كل الويل لمن يزحط، ويعلق فيه..
وفي ذلك اليوم، كان الحاج أيوب القبلي يعبر الطرفَ الغربي من الساحة على ظهر كديشه، فانزلقتْ قائمتا الكديش الأماميتان، وعلق بالوحل، وبقي متشبثاً بظهر الكديش لئلا يقع في الطين، وبدأ الوحل يسحبهما، حتى صارا على بعد أمتار من الطرف اليابس، وقد حاول المتجمعون في المكان إخراجَ الحاج أيوب، فصاروا يرمون إليه بالحبال ويشدونه، دون أن يتمكنوا من إخراجه، لا بل إن الشد كان يزيده غوصاً في الوحل، ويبعده أكثر فأكثر.
المهم؛ وقف جدي سليمان بين المحتشدين، وراح يتأمل ما يجري باستخفاف، وبعد قليل صاح بالناس: ابتعدوا من أمامي. وشمر عن ساعديه، وساقيه، واستأذن من "أبو برهوم"، صاحبِ الدار القريبة، وفك باب الدار الخشبي، وحمله، وألقاه بين اليابسة والوحل، ثم عبر فوقه، وقال للحاج أيوب اركب على ظهري، وتشبث برقبتي جيداً، ففعل، ونقله إلى المكان اليابس، ثم دخل، وحمل الكديش على ظهره، وأخرجه، وأعاد الباب إلى مكانه، وسط دهشة أهل القرية وإعجابهم.
- جدك، يا أبو سعيد، أسطورة فعلاً. ولكن ما علاقة هذه الحكاية بموضوع الشراهة للطعام؟
- حلمك علي، يا أبو المراديس، فقد وصلتُ إلى زبدة الحكاية، وهي أن جدي نزل، ذات يوم، من قريته البلاطة، إلى بلدة كفرتخاريم، على ظهر حماره، وبينما هو يتجول في السوق، شاهد معلاقَ خروف يتدلى من كلَّابة معلقة في واجهة دكان أحد القصابين، فنزل عن الحمار، وقال للقصاب:
- معلاق واحد لا يكفيني، أريد معلاقين.
فأجابه القصاب بأن طلبه موجود.
اشترى جدي المعلاقين، وعلق كلاً منهما في إحدى فتحتي الخُرج، وركب حماره، واتجه نحو القرية، ويبدو أنه كان جائعاً جداً، فمد يده إلى أحد المعلاقين، وقطع منه قطعة، بأصابعه الأقوى من السكين، وأكلها (نيئة)، وهو سارح يفكر في أن المعلاق المُطَجَّن، المقلي مع قطع البندورة والبصل، الذي تُرَشُّ عليه بعض التوابل، لذيذ أكثر من النيء، وأنه سيطلب من جدتي، عندما يصل، أن تفرم المعلاقين وتطجّنهما، ليتعشى هو وإياها والأولاد، والأحفاد، وأثناء هذا التفكير، كانت يداه تمتدان إلى فتحتي الخرج بالتناوب، حتى وصل الدار، أخيراً، وقال لجدتي:
- أخرجي المعلاقين من الخرج وافرميهما واطبخيهما، دعينا نتعشى نحن والأولاد.
ولكم كانت دهشته كبيرة عندما ذهبت جدتي إلى حيث يقف الحمار، وعادت وهي تحمل أنبوبين غضروفيين طويلين، وقالت له:
- أنت مخطئ يا عزيزي، لا يوجد في الخرج سوى هاتين القصبتين!
قلت لأبو سعيد إنها حكاية رائعة، بالفعل، وقد ذكرتني بواحدة، بَطَلُها أبو كمال القسراطوني، من مدينة إدلب، الذي كان موعوداً بضيوف سيزورونه بعد صلاة الجمعة، فذهب إلى السوق، اشترى ما يلزم لصناعة الصفائح واللحم بعجين، من خضار، ولبن، وطحينة، ودخل دكان القصاب ابن سفلو، وطلب منه أن يزن له رطلاً من اللحم المفروم (أكثر من ثلاثة كيلوغرامات)، ويخلطه بالخضار المفرومة، ففعل.. وحمل هذه الكمية الكبيرة إلى الفرن، وطلب من الفران تحويلها إلى صفائح ولحم بعجين، وفي فترة التحضير اشترى سطلاً كبيراً من اللبن الخاثر، وعاد إلى الفرن، وجلس على المسطبة، وبعد قليل بدأ الفَرَّان يُخرج أقراص اللحم بعجين ذات الروائح الطيبة من الفرن، ويقذفها إلى المسطبة، بقصد تبريدها، وباللاشعور، راحت يدا أبو كمال تأخذان قرصاً وراء قرص، وتدفعها في فمه، ومع كل قرصين أو ثلاثة، يأخذ غَبّة من اللبن، ومضى على هذه الحالة ما يزيد عن نصف ساعة، أعلن الفران بعدها أن الخَبْزة انتهت. قال أبو كمال:
- عال. ضع الأقراص في الصرة، لكي آخذها إلى الدار، وأطعم منها ضيوفي.
ضحك الفران حتى كاد أن يقع على الأرض وقال له:
- أية أقراص؟ لقد أكلتَها كلها، مع محتويات سطل اللبن!
لم يصدق أبو كمال ما سمعت أذناه، نظر إلى المسطبة فوجدها خالية من الأقراص، وكذلك سطل اللبن.. فقال:
- يعني أنا أكلت رطلاً من اللحم بعجين مع سطل لبن دون أن أشعر؟
قال الفران: أي نعم.
فغامت عيناه، واصفر وجهه، وقال:
- آخ يا أمي. لقد قُتِلت.
قال أبو سعيد: قصة غريبة. كيف انتهت؟
- تجمع الناس في المكان، وسارعوا لإسعافه إلى المشفى الوطني، وفي غرفة الإسعاف، بعد حوالي ساعة من إدخاله، خرج الطبيب وقال للمتجمهرين:
- من حسن حظ هذا الرجل أنكم أتيتم به إلى هنا قبل أن تقتله هذه الكمية الكبيرة من الطعام!