الرقابة الذاتية ودوامة الصمت
هل شعرت يوماً كفرد بالإحباط أو الحزن أو الغضب بسبب عدم قدرتك على التعبير عن رأيك أو الخوض في قضية ترغب بالحديث فيها بحرية؟ هل شعرت يوماً بأنك عاجز عن الحديث عن شأن اجتماعي أو سياسي أو اقتصادي أو ديني في أحد البلدان التي تحكمها الأنظمة السلطوية، لأنك تخشى خسارة بعض الأعمال أو تعريض بعض المقرّبين في ذلك البلد للخطر، أو لمجرّد تخوّفك من أنك قد تضطر لزيارة ذلك البلد أو المرور عبره أحياناً؟
الرقابة الذاتية هي عملية يتجنّب فيها الفرد التعبير بصراحة عن رأيه ويُخضِع فيها سلوكه وأفكاره وكلماته للكبت الذاتي، وحتى قبل أن تؤثر عليه أي جهات أو عوامل خارجية، تجنّباً للعقاب أو التبعات السلبية المحتملة لتعبيراته أو سلوكه. وهي من الطرق الشائعة للتعامل مع القيود المفروضة على الحرية الفردية، خاصة في المجتمعات العربية التي تفرض قيوداً على الحرية الفردية من خلال السلطات القمعية من جهة، أو المجتمعات الأبوية من جهة ثانية، مما أدى لظهور ما بات يعرف بظاهرة "دوامة الصمت" التي تتمثل في كبت الأفراد لآرائهم الخاصة وعدم مشاركة أفكارهم بحرية، إذا اعتقدوا أنها تختلف مع توجهات السلطة والمجتمع، التي قد تتطوّر لتجنّب النشاطات العامة أو الحديث عن المواضيع المثيرة للجدل التي يمكن أن يجلب الحديث فيها المشاكل أو يعرّض صاحبها أو من يهتم لأمرهم للمخاطر.
وعلى ما يبدو، فإنه قد تمّت هندسة مجتمعاتنا العربية على مدى عقود لإجبار الأفراد على ممارسة الرقابة الذاتية بسبب الخوف من العقاب أو قمع الأجهزة الأمنية أو المجتمع.
وخلال السنوات الأخيرة، ومع تزايد الانتهاكات الحقوقية والقمع في العديد من الدول العربية، ومن خلال عملي وحياتي اليومية، بتّ ألحظ تزايداً في الرقابة الذاتية لدى الأفراد العاديين، وحتى بعض الحقوقيين، مع تزايد الشعور بالعجز أمام الأنظمة السلطوية التي تحاول تكميم أفواه المجتمع ومنع النقاش العام حول كثير من القضايا.
وكثير من هذه الأنظمة، وغالباً من خلال أذرعها الأمنية، زادت من اعتمادها على القوة والترهيب والقمع للحفاظ على قبضتها على السلطة، وباتت تفرض مزيداً من الرقابة على الوصول إلى المعلومات ووسائل الإعلام والإنترنت، وعزّزت استخدامها للإعلام المدجن وجيوش الذباب الإلكتروني لنشر المعلومات المضلّلة للتلاعب بالرأي العام، وكثفت من اعتمادها على قوانين فضفاضة وضبابية لقمع الأصوات المعارضة وترهيبها، مما أدى لتعزيز الرقابة الذاتية لدى الكثيرين تجنّباً للتبعات القاسية.
باتت الرقابة الذاتية تشكّل أداة إضافية من أدوات قمع الحريات، أداة تزيد من الشعور بالإحباط وخيبة الأمل بين الأفراد
وكأنّ كل هذا الكبت الممنهج للحريات لم يكن كافياً، فصعدت بعض الأنظمة في المنطقة من استخدامها للتكنولوجيا الحديثة في التجسّس على الأفراد وتتبع أنشطتهم، مما أدى إلى زيادة التوتر في مجتمعات النشطاء والمدافعين عن حقوق الإنسان، وحتى الأفراد العاديين، ودفعهم لرفع مستويات رقابتهم الذاتية للحفاظ على الخصوصية والحماية من المضايقات أو الاعتقال، حتى فقد الكثيرون القدرة على التعبير عن أنفسهم بشكل صادق وصريح في القضايا التي يشعرون بشغف تجاهها، وبات من الصعب الانخراط في حوارات بناءة مع الآخرين الذين قد يكون لديهم وجهات نظر مختلفة.
هذا النمط من تعزيز الرقابة الذاتية أدّى إلى نقص في تنوّع الآراء والأفكار داخل المجتمعات، ومع اتساع رقعة هذه الممارسة لتشمل الصحافيين والشخصيات العامة، باتت الرقابة الذاتية تشكل خطراً على ما تبقى من ديمقراطية وحرية في كثير من مجتمعاتنا، مع تسيّد واضح لسردية الأنظمة السلطوية أحياناً، والمجتمعات الأبوية أحياناً أخرى، مما ساهم في فقدان كثير من الزخم والحماس للمدافعة عن كثير من القضايا ذات الأولوية، وأضعف قدرات المساءلة والمحاسبة الشعبية للأنظمة، وغيّب عن المشهد كثيرا من الأصوات الوازنة تاركين الساحة لطبول الأنظمة الجوفاء، بحيث باتت الرقابة الذاتية تشكّل أداة إضافية من أدوات قمع الحريات، أداة تزيد من الشعور بالإحباط وخيبة الأمل بين الأفراد عندما يشعرون بعدم قدرتهم على التعبير عن أفكارهم وآرائهم بحرية، والمدافعة عن القضايا التي تهمهم دون خوف من عواقب بطش الأنظمة والمجتمعات على حد سواء.