الرهان على الكلاب الخاسرة
حاول أن يتذكر إن كان قد استنفد حظه كله ذات عشية في السابعة من عمره، يوم تمنى ألا تعاقبه أستاذة التربية الإسلامية حين عجز عن تِلاوة سورة الشمس. يتذكر الوجه الممتلئ، تعابيره القاسية، الحاجبان الغليظان، والكف الأحمر الصغير السمين. يتذكر أيضا لون حجابها المستدير ورائحة عطرها النفاذة التي كانت تزيد من حدّة صرامتها بشكل لا يقبل التفسير. تتملكه قشعريرة سريعة فيهرب إلى زاوية أخرى من عقله، أكثر أمنا. يتذكر حذاء وردة البنفسجي، حب مدرسته الإبتدائية، لكنه لا يستطيع تذكر ملامحها رغم اجتهاده. وأطلقت ذكراها حنيناً لساحة المدرسة، وعشيات الأربعاء، وحصة اللغة العربية بصورة خاصة، حين كان يجلس في الصف الأول قريباً من باب القسم، على الطاولة الوحيدة التي تصلها أشعة الشمس. ربما ظن، في مكانه ذاك، حين كان تلامسه الشمس وحده دون بقية أقرانه، أنه كان مميّزاً. لقد كان اعتقاداً بسيطاً جداً، لكنه آمن به بينه وبين نفسه كحقيقة مطلقة، بل ترسخت في لاوعيه، وأخذها معه إلى الإعدادية والثانوية والجامعة ومقهى الحي. كان ينتظر إشارة إلهية بينما يفرك ألفاً وخمسمائةِ درهم بين إصبعيه، ولعل تردّده ذاك نابع من جهله بما ستؤول إليه نتيجة مباراة الليلة ومعرفته أنّ ألفاً وخمسمئةِ درهم تلك نصف أجرته، وثمن كراء شقته القزمية التي أصبحت تضيق عليه شهرا بعد آخر. وخلال لحظات تردّده، دخلت المقهى بائعة ورد صغيرة، ترتدي تنورة قصيرة وصندلاً بنفسجياً، تحوم حول الطاولات وتفرض على الجالسين بضاعتها.
لم يكد يصدق عينيه، قبّل رزمة النقود بشغف ووضعها في كف السي مهدي ثم أغلق كفه ضاغطًا على أصابعة بشدّة، وخاطبه بحماس: "سأعود في المساء، ضع اسمي تحت نفس الكلب". وقبل أن يغادر المقهى على عجل متجهاً إلى عمله، وعد نفسه بأن يشتري جميع ما لدى البائعة من ورد حين يقابلها ثانية.
أشعلت موجة الدوبامين المتدفقة في عروقه خلايا دماغه العصبية، حتى تلك التي أعتقد أنّه خسرها للأبد حين هجرته آخر صديقة له. إنه الآن، وأخيراً، يدرك كيف يكون سعيداً، كيف يبدو مثلهم. بدا له الكون أقل تجهماً، والشمس أكثر إشراقاً، بل إنه بالكاد يشعر بألم ركبته الذي لازمه لشهور. إنه في السابعة من عمره ثانية، في باحة المدرسة، يدير رأسه فجأة فيكتشف أن وردة كانت تحدق فيه طيلة الوقت حين لم يكن مدركاً. ومع اقترابه من مكان عمله، خَبَتْ نشوته شيئاً فشيئاً، وقبل أن تختفي تماماً أشعل سيجارته، واتكأ على الحائط المقابل لمكتبه الذي يتشاركه مع ثلاثة آخرين، والتمعت في ذهنه فكرة تفوقه من جديد. ابتسم منتصراً، ثم رمى السيجارة ودعسها قبل أن يلج المبنى. في المكتب، وضع السماعات على رأسه، فتح شاشة حاسوبه واستقبل أول مكالمة له. في لحظة ما، خلال المكالمة رقم 28، شعر بـ"الديجافو" أو أنه عاش هذه اللحظة ذاتها من قبل، فارتبك ونسي كلماته التالية. استدرك موقفه ذاك بأن نقر نقرتين بالفأرة، وبدأ بالقراءة بشكل آلي. وربما لم ينجح في إقناع زبونه، أو أن زبونه ذاك تحسس من لكنته التي ترمي به في بلد من بلدان شمال أفريقيا، فأغلق الخط في وجهه. تمتم بعض اللعنات في سريرته، وما هي إلا دقائق حتى ظهر إشعار على شاشة حاسوبه. تمتم لعنات أخرى بلغته الأم، وتوجه إلى مكتب المشرف.
أشعلت موجة الدوبامين المتدفقة في عروقه خلايا دماغه العصبية، حتى تلك التي أعتقد أنّه خسرها للأبد حين هجرته آخر صديقة له
امتلك في طفولته ما بدا له حينها قوة خارقة، اكتسبها بشكل عفوي. ربما لأن والديه كانا حازمين أكثر مما ينبغي، وربما بسبب أرقه المزمن. وعلى أي حال، فأرقه المزمن ذاك كان نتيجة حزم والديه. كانا يبتكران على الدوام أسباباً تمنعه من اللعب في الخارج، أو الذهاب مع أصدقائه للبحيرة، أو حضور حفلة عيد ميلاد. كانا يقيدانه بالمنزل، وسط الكتب ومسائل الرياضيات الخاصة بالصف الذي سيدخله في العام الدراسي المقبل، سجينا لمشاريعهما التي لم يكن يدركها حتى. بالكاد كان يستطيع أن يصرف السكر من جسده، وحين كان يضع رأسه على المخدة ليلاً لينام، كان جسده متقداً، بل جامحاً بما يكفي لأن يقطع نصف المدينة ركضاً. وحين كان لا يستطيع الركض، كان يتخيله. كان يركض في الملعب، ويقضي وقتاً في البحيرة مع رفاقه، ويكتب شعراً لوردة. كان يفعل ذلك كله من دون أن يغادر سريره، بل حتى من دون أن يقلق من سؤال والديه. واستغرق أياماً داخل عقله، يكتشفه مثل لعبة جديدة، ونسي أمر الخروج من البيت وتطلع دائماً إلى موعد النوم. واعتاد الأمر إلى أن أصبح استجابة تلقائية بالنسبة إليه، يتحول إليها من دون عناء. فمثلاً قد يبدو الآن جالساً قبالة المشرف مطأطأ الرأس، إلا أنه في مقهى السي مهدي يحاول خلق بائعة الورد من بقايا ذاكرته وربطها مع أحداث حياته. أدرك أن المشرف انتهى من محاضرته حين تبدت الضوضاء في الخلفية، فنهض ووعده بنتائج مرضية وصعد إلى سطح المبنى.
أشعل سيجارته الثانية واستعد للعودة لحلم يقظته، حين لمح فجأة أحد زملائه الثلاثة قادماً نحوه. ربما لن يعود إلى ذاك الحلم نفسه، بل إلى حلم آخر يُبقيه قريباً من واقعه، حتى اذا باغته زميله بسؤال ما كان سريعاً في الرد عليه. وتحدث زميله عن كل شيء تقريباً، الأزمة في البلد، ومحاولاته اليائسة في إيجاد عمل آخر، وعن مباراة الليلة، وعن زينب، وبعض الديون، وعن المشرف، وازدياد نسب العنوسة في البلاد، والنسوية السامة، وعن فكرته للهجرة لإسبانيا، ثم عاد في الأخير ليتكلم عن الأزمة في البلد. حين انتهت استراحة الدقائق العشر، تنبّه إلى أنه دخن أربع سجائر واستغرق في سبعة أحلام. كان يدرك تماماً أن أحاديث من هذا النوع تعد أرضاً خصبة يزرع فيها أحلامه ويحصدها. وأحس بنصرين حين تذكر موعده في آخر المساء.
امتلك في طفولته ما بدا له حينها قوة خارقة، اكتسبها بشكل عفوي
في السادسة وعشرين دقيقة، وقف أمام باب العمارة يترقب. وبعد دقائق دخل العمارة بحذر، ثم ارتقى السلم بسرعة البرق. كانت موجة الدوبامين الثانية كفيلة بأن ترهق قلبه، فارتمى فوق الكنبة، يشعر بسعادة مجهولة المصدر. رجع نبضه إلى المستوى الطبيعي، وسالت إذّاك دمعتان من عينيه. ها هو ذا ينظر إلى السقف، تغريه وحدته المفرطة وشعوره الدائم بالفراغ بأن ينغمس مرة أخرى في طقسه. لكنه يبتسم بمكر ويطرد الفكرة من رأسه. في الحمام، ينظف تحت إبطيه بكسل، ويرش مزيل العرق، ثم ينتبه إلى صورته في المرآة، يتذكر شيئاً ويبتسم ابتسامة خفيفة.
يغلق باب الشقة بحذر، وينتظر لوهلة ثم ينزل الدرج. انطلقت أصوات من الدور الثاني، بدت وكأنها كانت صاعدة إلى الثالث، وقد ميز أحدها. انه صاحب العمارة الذي لم يدفع له درهما واحدا منذ ثلاثة أشهر. لم يكن بيده سوى الركض، وأطلق ساقيه للريح. اصطدم بالأصوات في طريقه وبأصحابها، وتبعته الشتائم حتى خارج البناية. وتابع الركض، ركض مثلما لم يركض في حياته، بساقيه، بجسده، كشيء مادي، موجود، منعتقاً من صباه الوحيد، وحبه الوحيد، ورشده الوحيد. وأشعلت موجة الدوبامين الأخيرة كافة خلايا دماغه العصبية، حتى تلك التي اعتقد أنه خسرها للأبد. وفي لمحة خاطفة تذكر وجه وردة، وتذكر أيضا أن أستاذته لم تعاقبه يومها حين عجز عن تِلاوة سورة الشمس.